هجرة العقول ولا هجرة السيليكون .. بقلم: جيهان عصمت علي جان
|| Midline-news || – الوسط
” في 7 آذار من العام 1770، صدر قانون إنكليزي يدين النساء المخادعات.
أولئك الغادرات يغوين رعايا جلالته ويدفعنّ بهم إلى الزواج باستخدام فنون خبيثة مثل العطور، الأصباغ، الحمامات التجميلية، الأسنان الاصطناعية، الشعور المستعارة، حشوات الصوف، الصدارات، الخواتم والأقراط، أحذية الكعوب العالية.
مقترفات هذا النوع من التدليس، يقول القانون، يحاسبن وفق القوانين السارية ضد أعمال السحر، وتعتبر زيجاتهن باطلة منحلة.
لقد حال التخلف التكنولوجي دون إدراج السيليكون، وشفط الشحم، والبوتكس، وعمليات التجميل وغيرها من أعاجيب الجراحين والكيميائيين.” (( رواية أبناء الأيام، إدواردو غليانو،ترجمة: صالح علماني)).
اعتقد أن الكثيرين من معجبي الآدب اللاتيني قد قرؤوا هذه الرواية لغليانو، ولكن لا أعتقد أن الكثيرين وهنا أقصد”الكثيرات” يوافقن الكاتب رأيه بالشفط والسيليكون وغيره، بل اعتقد أنهن سيعتبرن القانون الإنكليزي قانونا ظالماً وضد حقوق المرأة وبالأخص الفقرة التي تقول “ يحاسبن وفق القوانين السارية ضد أعمال السحر“، أو قد ترين فيه قانوناً بدائياً لا يراعي أننا في زمن نستطيع فيه تغيير أشكالنا إذا ما لزم الأمر، وهو أثر هامشي للتطور و”التقدم” الذي وصل إليه الإنسان في عصرنا.
أنثاء قراءتي لهذا الفقرة من رواية غليانو تذكرت حلقة من حلقات الدراما السورية الشهيرة “مرايا”، واللوحة بعنوان “عروستك الحلوة قمر” (كتابة: دلع ممدوح الرحبي، بطولة: ياسر العظمة ومها المصري).
في اللوحة أمضى الفنان ياسر العظمة قرابة السبع سنوات يبحث عن عروسة جميلة جداً لا من أجله، بل من أجل أن يرزق بأطفال بغاية الجمال، إلا أن الساحرة مها المصري خدعته بكل ما للكلمة من معنى.
من منا ينسى تعابير وجه العظمة وهو يشاهد مرة تلو الأخرى كيف تتساقط زوجته الجميلة من عينه مع مرور الأسبوع الأول من شهر العسل في فندق بصيدنايا، لتغدو امرأة قبيحة جداً دون الشعر المستعار والأظافر الصناعية والعدسات اللاصقة والرموش وطبقات الكريم المفتحة للبشرة، والطامة الكبرى كانت حين اكتشف أنها قامت بعملية تجميل لأنفها، عندها قال العظمة مصدوما” الولاد حسب أي نسخة رح يجوا، النسخة الأصلية ولا النسخة المحسنة، قليلي لا تستحي شو نافخة كمان..”.
اعتقد أن العظمة وقتها كان سيفرح بالقانون الإنكليزي وبالأخص الفقرة التي تقول” وتعتبر زيجاتهن باطلة منحلة“. لنكتشف في آخر اللوحة أن الفنان العظمة قد خدع زوجته بأسنانه الاصطناعية.
عمليات التجميل من المعالجة إلى عاهات مستديمة..!
لا ننكر أن التطور الذي شهده الطب ولا سيما في عمليات التجميل قدم فوائد كثيرة للبشرية، فقد استخدمت غرف عمليات التجميل لإزالة التشويه الخلقي الذي نتج في أغلبه عن تناول الأم لأدوية غير مسموح بها أثناء فترة الحمل، استخدم أيضاً في معالجة التشوهات التي تحصل نتيجة الحوادث المختلفة أو بسبب الحروب، وبفضل ذلك حظي الطب التجميلي بأسمى درجات الطب النبيل الذي طور لخدمة الإنسان وإنقاذ حياته، فهناك قصص لا تعد ولا تحصى لأشخاص تعرضوا لحوادث مريرة وكادوا أن يقتلوا أنفسهم بسبب التشوه المرعب الذي طرأ على أجسادهم، لكن الطب التجميلي كان اليد الرحيمة التي أمسكت بيد المريض ومشت به في طريق التعافي والعودة إلى الشكل المقبول الخالي من التشوهات.
لكن للأسف مع تزايد التطور في الطب التجميلي بات يتجه إلى المكان النقيض الذي اكتشف من أجله، بدأ الهوس بعمليات التجميل بين المشاهير بداية لتنتقل لاحقاً إلى العامة المغمورين، حتى وصل الأمر في زماننا إلى عدم التفريق بين من هو من المشاهير، زوجات رجال الأعمال والفنانات والإعلاميات أم فتيات مواقع التواصل الاجتماعي ممن يعرفون اليوم باسم “الفاشينيستا”، تساوى الجميع في عمليات التجميل، الغني والفقير، الجميل والقبيح، المثقف والجاهل، المشهور والمغمور، وحدتهم غرف عمليات التجميل حين فرقتهم الطبقات الاجتماعية والاهتمامات، فانتقل الطب التجميلي من المعالجة إلى “التصحيح” ، أصبح تجارياً وتجارياً بحتاً، ولا أدل من ذلك إلا لوحات إعلانات مراكز التجميل وعيادات الطب التجميلي التي تغزو شوارعنا ومدننا، حتى ليشكك المرء في جماله أو تقبله لنفسه خارج إطار “معايير” الجمال التي وضعت بأكثر صورها تشوهاً، من أظافر الساحرة الشمطاء والحواجب العريضة الداكنة إلى الشفاه الكبيرة الممتلئة والأسنان البيضاء كشرارة انفجار صاروخي، فالوجه المنتفخ كأنه خرج للتو من حلبة الملاكمة وصولاً إلى الصدر والمؤخرة المنفوختين اللتين توحيان لمن ينظر إليهما بأن انفجاراً سيقع في غضون ثوان “فانجوا بأنفسكم قبل فوات الأوان“.
حلوة متل اللعبة..!
ومع اختلاف معايير الجمال ومع تشابه أغلب النساء كأنهن خرجن من مصنع تجميل واحد “طبعة واحدة لوغو واحد”، اغتصبت جملة “حلوة متل اللعبة“، الجملة التي كانت تقال سابقاً للنساء لوصف جمالهن الساحر الأخاذ، باتت اليوم تقال للنساء اللواتي غزاهن الطب التجميلي غزوة جماعية لم تنجُ منها إلا الروح، باتت جملة “حلوة متل اللعبة” التعريف المختصر للفتيات اللواتي اتسمن بجمال صناعي خال من الحياة، جمال أبكم، غير مؤهل للنطق حتى بشذرات روح محتضرة.
المصيبة أنهم يفعلونه ويخجلون من فعلتهم..!
كثيرات هن اللواتي خرجن على وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام والصحف للتعبير عن ندمهن لإجراء عمليات التجميل التي سببت للبعض منهن عاهات مستديمة وللأسف قضت على حياة البعض الآخر.
لكن الكثير الآخر الذي ليس لديه الشجاعة للاعتراف بأنه خضع لعمليات التجميل ينكر كل ذلك، ويعتبر مجرد السؤال “هل خضعت/ي لعمليات تجميل؟!” إهانة بحقهم.
اعتقد أن الأمر قلة ثقة بالنفس أولاً، وثانياً يعلمون أن هذه العمليات ستعطي مفعولاً عكسياً بعد مدة زمنية، ليختفي الفعل الجمالي الأبكم ويظهر التشوه الخلقي الصارخ بأبشع صوره وهنا تبدأ المعاناة الحقيقة والندم بعد فوات الأوان.
لنبدأ بالكتابة عن أن ” معاناة الرجال والنساء من هجرة السيليكون أضعاف مضاعفة من معاناة الدول من هجرة العقول“.!
جيهان عصمت علي جان