مصطفى الجارحي: ديواني المشترك مع د.الراوي هو الأهم.. ونصوص الخدرجي والبنا تؤكد أن نبع العامية لم يجف
لم أنشغل كثيراً بطباعة أعمالي وربما تتوالى إصداراتي بكثافة قريباً
|| Midline-news || – الوسط …
حوار: روعة يونس
.
.
“البدء والمنتهى”
نحن أمام شخصية ثقافية شاملة. نحار من نحاور أولاً! الشاعر أم المسرحي أم الصحفي أم الناشر؟ إنما كمدخل للحوار، هل الشاعر أقرب إليك؟
- الشاعر بالتأكيد هو البدء وهو المنتهى.. وكل ما حوله يستهدف التخديم عليه.
أليس غريباً أن شاعراً كبيراً مثلك، لم يصدر حتى الآن سوى مجموعة شعرية “ديوان الورد” ومشاركة في ديوان مع شاعر آخر؟
ربما يكون الديوان المشترك هو الأهم حتى الآن، وسيظل، في مشواري الشعري، ويكفي أنه كان مع أستاذي الشاعر المتفرد صاحب التجربة المميزة صلاح الراوي، فيما كنت أنا في مقتبل حياتي وأحبو على درب الشعر، ومن هنا تأتي أهمية التجربة، ومن واكبها يدرك كيف تنازل الراوي بقيمته العالية لنتشارك التجربة، وأذكر أنه بادر بكتابة مقدمة للديوان موسومة بعنوان “مرج البحرين يلتقيان”. والدكتور صلاح الراوي يعد أيضًا واحدًا من أهم خبراء الثقافة الشعبية.
أما مسألة الطباعة فالحقيقة لم تشغلني كثيرًا.. وربما يأتي يوم تتوالى فيه إصداراتي بشكل مكثف، سيما وأنا أعمل في صناعة الكتاب والأمر ليس صعبًا.. وكنت في فترة سابقة أظن أن المنبرية هي الأساس كون الشعر ما زال شفاهيًا في تصوري، ثم أن مواقع التواصل الاجتماعي ضيقت الفارق كثيرًا.
“أسباب ظلم العامية”
بعض قصائدك العامية تحوّلت إلى أغنيات جميلة (لكن هذا لا يكفي) لماذا لا تعمل على تحسين الذائقة الفنية -العامة- من خلال التشجيع على غناء قصائدك العامية؟
- ليت الأمر بيدي.. كتابة القصيدة أنا وحدي أتحكم فيها.. أكتبها، أنشرها، ألقيها.. أما الأغنية فهناك عناصر أخرى لا يمكن السيطرة عليها: التلحين والتوزيع والغناء والتسجيل والمكساج والتصوير والمونتاج والإخراج و… و… وقبل ذلك وبعده الإنتاج.. وهي منظومة معقدة لا يمكن فك شفرتها ببساطة، كما أنها تخضع أولاً وأخيرًا للسوق.. هذا من ناحية، أما الأخرى فأنا أحاول كتابة أغنية مختلفة حتى ولو لم تكن جميلة، شأنها شأن القصيدة.. أغنية تحمل طاقات شعرية تحترم عقل المتلقي، ومثل هذه النوعية تحتاج إلى مغامرة إنتاجية.
سؤالي السابق مدخل لهذا السؤال: من المؤسف أن “أم الدنيا” التي يعرف العالم العربي كله “لهجاتها العامية” تعجز عن تقديم شعراء عامية كبار، إذا ما استثنينا حضرتك واسمين آخرين بالكثير؟ هل هناك استسهال أو استخفاف من جهة ما؟
- الإجابة صعبة بالتأكيد.. لكن قبلاً لابد من تصحيح الصورة.. فمسيرة شعر العامية في مصر لم تتوقف.. والنبع لم يجف أو ينضب كما يعتقد البعض.. وهناك أسماء كثيرة لشعراء عامية على أعلى مستوى.. لكن يمكن تلخيص السبب في عدة عناصر.. أولها رغبة الإعلام في التأكيد المتواصل على الشعراء القدامى، ومن ثم يمنع الأجيال الجديدة من أخذ مكانتهم الطبيعية على الأقل بحكم الزمن.. الإعلام ارتكب جريمة هي الأكبر في تاريخه ؛ أصر على تمجيد الرواد فذبح الأجيال الجديدة.. تخيلي أنني أقول هذا وعمري الآن سبعة وخمسون عامًا (!) فما بالك بشعراء في العشرينيات مثلاً.. ورغم ما فعله الإنترنت من ثورة خيالية إلا أن الآلة الإعلامية الكلاسيكية وحدها القادرة على صناعة الأجيال الجديدة.
وهناك سبب آخر لا يقل أهمية، وإن كان يتعلق بالسبب الأول، وهو الجمهور الذي تربى لخمسة عقود تقريبًا على نوع واحد وحيد من الكتابة (بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين وسيد حجاب والأبنودي)، وبالتالي يقف متشككًا مرتابًا أمام الكتابات الجديدة، حتى أن شعراء مهمين من جيل السبعينيات رحلوا فيما لم تصل تجاربهم إلى مبتغاهم.
وعلى هذا فإن فكرة الاستخفاف غير واردة على الإطلاق.. وأستطيع أن أذكر عشرات الأسماء لشعراء مهمين ليس مقدرًا لهم أن يصلوا إلى الجمهور.. هناك مثلاً إبراهيم عبد الفتاح وأمين حداد ومحمود الحلواني ويسري حسان.. انظروا إلى كتابات الجيل التالي لنا مباشرة: أسامة البنا وعبد الرحيم يوسف.. تابعوا ما يكتبه أحمد الخدرجي ومحمود رأفت.. والقائمة طويلة بالتأكيد ولا تخفى على أحد.
وأخيرًا ثمة سبب يتعلق بالشعراء أنفسهم، هو أن غالبيتهم بحكم الظلم الحادث كفروا بفكرة الجمهور، وارتاحوا لكتابة الشعر بطريقة لا تضع الجمهور في المعادلة، وعمدوا إلى تغييبه كليًا، فانقطعت الصلة تمامًا بين نصوصهم والمتلقي.
.
“القاتل الوسيم والديمقراطية”
بعد عدة مسرحيات قدمتها، ألا تتوق لكتابة عمل مسرحي جديد؟ وهل تعتقد أن المسرح بحدوده المحلية، غير قادر أن يُعرّف عليك ويطلقك خارج حدود مصر؟
- المسرح هو قاتلي الوسيم.. ومشكلة المسرح عندي أنه أولاً ليس استهلاكيًا فيرحب به القطاع الخاص، وثانيًا هو مسرح غنائي استعراضي ما يعني تكلفة إنتاجية ضخمة، وهو ما حدث في باكورة أعمالي الاحترافية على خشبة “مسرح البالون”، لكن الوقت تغير. لا أحد يريد المسرح بوصفه فنًا تنويريًا تحريضيًا؛ يعطي رسالة تلغرافية يتلقفها الجمهور سريعًا فيبادر بردود أفعال غير محسوبة.. ومن هنا تخشى الأنظمة فتح المجال لمثل هكذا نصوص، وتراها مفخخة. قدمنا مسرحيات تمت مصادرتها، ومسرحيات أخرى تدخل الجمهور لتغيير النهاية انتصارًا للأبطال المقهورين.
لديك تاريخ صحافي هائل بدءاً من التحرير وصولاً إلى رئاسة التحرير. كيف تقيّم لنا الواقع الإعلامي في مصر. مع ملاحظة أن دولاً أخرى تحسدكم لامتلاككم هوامش من الديمقراطية (!)
- في جملة واحدة: هذا الهامش الديمقراطي لم يعد موجودًا.. كل البرامج تتحدث بلسان واحد مع اختلاف وجوه مقدمي البرامج.. كل الصحف تتحدث بلسان واحد مع اختلاف رؤساء التحرير.. ومن يخرج عن النسق المرسوم له يجلس في بيته.. (أخبري الحاسدين في تلك الهوامش أن يأتوا ويأخذوها ويخلصونا منها).
.
“تقنين.. ولا طحين”
ترأس تحرير مجلات الكترونية، من ضمنها (ك ت ب) التي تتيح المجال للمبدعين المخضرمين والشباب بنشر إبداعاتهم. هل ترى في الكثرة والوفرة دلائل إيجابية؟
- دعيني أخبرك بأمر لا يعرفه سوى المقربين فقط، هو أن (كَ تَ بَ) تم إدراجه ضمن المواقع الأكثر تأثيرًا.. إلى هنا يبدو الأمر مبهجًا، لكن لأنه كذلك فقد توقف عن البث منذ يوم 17 فبراير 2020 الماضي، بعد أن خضع لمسألة تقنين الأوضاع، ومن ثم حتمية دفع 50 ألف جنيه لـ”المجلس الأعلى للإعلام”، برغم أنه موقع معني بنشر الإبداعات الشعرية والقصصية والنقدية والتشكيلية والترجمة وما إلى ذلك، أي أنه لا يدخل في منافسة مع المواقع الشاملة التي تضع البيض كله في سلة واحدة (سياسة واقتصاد وشؤون دولية وأدب وحوادث ورياضة وطبخ ومرأة وأزياء وحتى الكلمات المتقاطعة).. ودفع مبلغ 50 ألف جنيه هو أمر صعب خاصة مع عدم وجود مردود مالي للموقع.
و(كَ تَ بَ) بالأساس تم تدشينه من أجل المبدعين الحقيقيين على امتداد العالم كله، وفضلاً عن العربية كان ينشر نصوصًا بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، وينتخب نصوصه بدقة شديدة إلى حد التطرف أحيانًا، ولأجل هذا هو صامد حتى الآن على محركات البحث برغم عدم تحديثه منذ تسعة أشهر.
شاعر ومثقف ومعني بالحركة الثقافية لابد أن نسأله كيف تكون الثقافة سلاحاً فعالاً لدحر التخلف والجهل والعنصرية والإرهاب، طالما بعض المعنيين بهذه الحركة (ليس في مصر وحدها) سلطويين وجهلة ومتطرفين؟
- لو كانت هناك مؤسات ثقافية حقيقية وفاعلة وتؤدي دورها ما كنا وصلنا إلى تلك الحال البشعة.. (مجلس أعلى للثقافة، ومجلس قومي للترجمة، وهيئة للكتاب، وهيئة لقصور الثقافة)، مهرجانات ومعارض ومؤتمرات.. مئات البنايات وكتائب من الموظفين.. ضجيج بلا طحين.. يعني أن الفشل منهم وحدهم.. ومع ذلك يظل الهامش غير المؤسسي أكثر إشراقًا ويُحدث التوازن برغم كل شيء.
وأتصور أن الأساس يأتي مبكرًا من المدارس.. من مكتبة المدرسة ومن الأنشطة الفنية، والمسابقات الثقافية التي تربينا عليها، ومجلات الحائط، ومن دروس تعليم الموسيقى، ومن الرياضة كذلك.. ثم بوضع استراتيجيات تحدد ماذا نريد لمستقبل هذا البلد، هذه البلاد، والعمل على تنفيذها من أقصر الطرق، وباختيار الكوادر المناسبة، وبفتح الآفاق لكل الصحف والمواقع لنشر ثقافة التسامح واحترام الآخر، شرط أن تلتزم هذه المواقع بأخلاقيات وأدبيات المهنة، بلا تمييز أو تعصب للدين أو العرق أو اللون.. ربما نجد في هذا الطرح بداية.
.
“مواقع ومسابقات”
شعر ومسرح وندوات ومحاضرات ونشر ورئاسة تحرير وموقع رياضي.. وماذا بعد تحضّر لنا؟
أولاً العمل على حل مشكلة موقع (كَ تَ بَ) ثم البدء في تدشين سلسلة المواقع أو الحضّانات التابعة له: (قَ رَ أَ) للدراسات النقدية فقط، و(رَ سَ مَ) للفن التشكيلي فقط، و(عَ زَ فَ) لكل فنون الموسيقى لدى الشعوب.
ثانيًا ندرس تدشين مسابقة لدعم المبدعين الجدد.. ثالثًا بالنسبة لندوة “نادي أدب آفاق اشتراكية” نعمل على طباعة كتاب كل ستة أشهر، مبدئيًا، يضم النصوص التي نوقشت وأهم الآراء النقدية عنها.. خاصة أن النادي أصبح الآن في مكانة تليق به وبرواده ومرتاديه.