“قربا مربط النعامة مني” … محمد يعقوب
تأخذ الملحمة الحربية قوامها الدرامي من أربع قتلى موزعين على طول الحكاية وبتوافق مع التصاعد الملحمي للمعارك؛ تندلع الحكاية بمأساة على طريقة “سوفوكليس” الذي يستثمر الأدب في “النكد” فيعيد صياغة الأساطير الحزينة بأسلوب “يقمط القلب”، ويغرق في الميلودراما محولا كل ما يجري من أحداث لصالح إهراق المزيد من الدموع.
هكذا كانت حرب البسوس سلسلة من القتلى، وإلى جوار كل جثة بركة التنهدات، وككل الملاحم الحية احتفظَت بالحارث ابن عباد للمشهد ما قبل الأخير.
أول وأهم قتيل، كليب وائل، الرجل الذي اجتمعت عليه مضر وربيعه لمحاربة مذحج، وهنا كعادة تاريخ الأساطير يركز على الأبطال ويخفي بين طياته السياسة، فالرجال في عرف الملاحم هي من تصنع الأحداث، لكن حرب ربيعة ومذحج كانت حربا إثنيه تحررت فيها قبائل عدنان من سيطرة قبائل اليمن. انتصر كليب في حربه فتوج ملكا، بغى الملك الجديد كما بغت مذحج التي هزمها في الحرب، وكان يجب أن يموت قتيلا لتبدأ الملحمة الشعبية المثيرة! ولتكون جثة هذا الملك العظيم تمهيدا فظا لولادة صدر بيت من الشعر يقول “قربا مربط النعامة مني”.
تندلع الحرب بين إبني عم “تغلب وبكر” قائد تغلب عدي بن ربيعه أو المهلهل وقائد بكر همام بن مره، ولتكون الحرب حربا غير تقليدية تستهلك المزيد من العواطف يجب أن يكون همام ومهلهل صديقان قديمان، تتركك الحكاية تتخيل شكل حرب من هذا النوع، على طريقة كبار الكتاب اللذين يفسحون المجال لقرائهم ليشكلوا معانيهم الخاصة. وهنا يجب أن تكون الجثة الثانية جثة أحد الرجلين وبما أن الملاحم طويلة فيجب أن يكون القتيل همام بن مرة على يد صديقة مهلهل لتستمر الحرب على وقع اللوعة التي تتركها جثة همام.
تصل الحكاية إلى اللحظة التي يجب أن تصل اليها وهي مقتل جساس بن مرة؛ قاتل كليب. وهي الجثة الثالثة.. يسقط مُسعر الحرب وبسقوطه كان يجب على المهلهل أن يترجل، ولكن مهلهلا لا يؤمن بوجود كفء لكليب، ولا يؤمن بوجود عقوبة على الأرض توازي حجم الجريمة المهول، تستمر الحرب ولكنها تصبح حربا مملة بعد أن قتل الجميع، وأصبحت بحاجة الى تشعب مفيد على طريقة كاتب السيناريو سيد فيلد. يبرز الحارث ابن عباد وابنه بجير ليعطيا الملحمة مساحة أكثر دون تعمد التطويل أو المط.. كان ظهورهما تحولا ضروريا كي لا تنتهي حرب البسوس نهاية تقليدية كأي قصة ثأر عادية!
يرسل الحارث بن عباد ابنه بجيرا لطلب الصلح من مهلهل بعد مقتل جساس، ولكن الرجل المشبع بروح انتقامية مخيفة يقول عنها القس هنري لامنس بأنها بقايا فروض دينية قديمة تجعل الانتقام فرضا تعبديا، يرفض مهلهل الصلح، ويرفض سعي الحارث فيه، فيقتل الغلام وكانت الجثة الرابعة.
.
.
*(كاتب وناقد- سوريا)
تابعونا على صفحة الفيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews