قديسو المخيلة .. أحمد علي هلال
|| Midline-news || – الوسط …
خاص- الوسط
لطالما تساءل كثيرون: هل ينضب الإبداع وتتآكل خمائره، وهل يشيخ بحكم دورة حياته، انطلاقاً من أن الكلمة كما تواضع على القول فيها أنها كائن لغوي يجري عليه ما يجري على البشر؟. ستكون الأسئلة نافلة بوعينا أنها تتجدد في مسار وصيرورة لها علاقة بالزمن بوصفه بعداً من أبعادها وذلك ما يعكس حقيقة رهان خفي على أطوار الكلمة ودورات حياتها المختلفة، لأنها نسيج ذاكرة ومرايا تحولات وجينة تتموضع في خلايا الإبداع لتمنحها قوة التجدد وعافية الحياة، ولعل تعليقاً لأحد عمالقة الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ، -قد يشي به هذا السياق- رداً على أسئلة وُجهت له: «لقد قلت كل ما لدي، ولم يعد لدي ما أقوله من جديد».
والسياق ذاته يستدعي رسالة سادن التعبير عن قارة بعينها، ونعني به غبرييل غارسيا ماركيز، الرسالة الأثيرة التي كُتبت بما يشبه الوداع الأخير واعتزال الكتابة بفائض شجنها وبمخاتلتها لشيطانها، ما خلا تلك الرواية التي حاكى فيها رائعة الياباني كواباتي الشهيرة «الغانيات الجميلات»، متأثراً بمتنها الحكائي وبموضوعتها الساحرة، لما يتذكره المرء في مساء العمر الجميل، وكأننا بـ «كواباتي» يبث في ذاكرة ماركيز حلم الصبا والشباب!. وما بين محفوظ وماركيز جرت مياه كثيرة أصبح فيها اعتزال الكتابة أشبه باعتزال لاعبي كرة القدم، وبمفارقة إضافية تقول: لاعب سابق… ولكننا لا نستطيع أن نقول كاتب سابق أو أسبق، ولو على سبيل التندر.
لا ريب أن حضور القارئ، وربما التبشير بما سمي بعصر القارئ، وفي المدونة النقدية نقول فضاء القارئ، سيكون من الحوافز الدالة على إنتاج النص، «فالقارئ في النص» ليست محض تقنية نقدية لأن ثمة هاجس دائم يساور الكتاب هو الخشية من شيخوخة المخيلة، فسنجد بأن بعضهم على الأقل لا يرغبون بأن يقال أنهم توقفوا عن الكتابة، وربما باحوا لمحاوريهم بأنهم ينوون الشروع في كتابة سيرهم، أليست السير أضغاثاً روائية محتملة، تستبطن نوازعهم الخفية لكتابة رواية عابرة للأجناس ، أو مخترقة لها إن جاز التعبير، حتى لو لم يرد كاتبها نسبتها إلى الرواية، وقد يحدث أن يفاجئ المحاورين بجملة محددة ومباشرة تماماً، كـالتي قالها الروائي الشهير فيليب روث: «أعتقد أن الأمر انتهى.. أعتقد أنني انتهيت». وعلى الأرجح أن عبارة كهذه ستثير جدلاً صحفياً عنوانه الأبرز «فيليب روث يتوقف عن الكتابة»، ماذا لو انسحب ذلك على ممن نعرفهم من كتابنا الكبار، فهل الأمر سيتعدى شيخوخة المخيلة إلى نضوب التجربة أو اكتمالها؟
وهذا ما نجد دلالاته في تعبير الأعمال الكاملة التي عادة ما تطبعها المؤسسات المعنية بعيد رحيل الكتاب، لأن التجربة هنا بهذا المعنى قد اكتملت وأصبحت مهاداً خصباً للقراءات الدرسية الفاحصة وبأبعاد مختلفة. وصاحب «الوصمة البشرية» – روث- وغيرها سيشي بالسبب ذاته ما يعني طريقة استدلالية لتأويل صحفي وسواه، لنجده يجهر بهاجسه الخفي حول تناقص عدد القراء الحقيقين أو المحتملين، الذين يأخذون القراءة على محمل الجد، -روث- الذي ينتمي إلى جيل من الكتاب المؤسسين، إذ تلفته حدة فلوبير والعمق الأخلاقي لـ كونراد وجلالة التأليف لـ هنري جيمس، الأمر الذي جعله يصفهم بقديسي المخيلة.
إنما شرط -قداسة المخيلة- سينتظر استحقاقه بقارئ ينهض عليه جمال الأثر، ولو جرى التوقف عن الكتابة لأجل تناقص القراء في فضاءنا الثقافي العربي، فضلاً عن ندرة القارئ الحقيقي لتناقصت العديد من الروايات كما دواوين الشعر، إذ إن المسألة هنا لا يمكن تبسيطها على هذا النحو، لأن الزمن قارئ آخر، ونحن محكومون باختلافنا الثقافي عن الآخر، ذلك ليس العزاء لمن يكافحون من أجل القارئ، ولمن يكتب الكاتب العربي، فالكتاب هو دورة من حياة جديدة، تعني ما بعد حيوات الكتاب وشروعهم في محاورتنا نحن كقراء محتملين، وبتواتر جماليات الأثر أصبح القارئ اليوم هو ما تعول عليه مؤسسة الكتابة ليعيد كتابة المكتوب، أي وعياً ثقافياً جديداً.
*كاتب وناقد- دمشق