فادي السهو : أرى في الكتابة ذاتي.. وهي جواز سفري إلى العالم
لم تعد المشكلة أن العربي لا يقرأ! بل ماذا يقرأ عبر الانترنت؟
|| Midline-news || – الوسط …
روعة يونس
.
من هناك هو، من تلك الجهات: الشمال الشرقي من سورية. لكنه ينتمي إلى سوريا كلها، إنما مدينته “الحسكة” منبع الحضارة توجعه اليوم، على الرغم من إيمانه أنها ستبلسم جراحها وتفرحه قريباً، شأنها شأن سوريا.
الروائي واللغوي فادي السهو، الأشبه بمدينته، أدبه أصيل كتراثها المتجذر. ولغته كنهرها الخابور، رقراقة. وأفكار رواياته خصبة كأراضيها. قدّم خلال الأعوام الأخيرة الفائتة روايتين قيّمتين، حرص في إحداهما أن يترك للأجيال القادمة إشارات ودلالات عن المدن التي تقف شامخة كعود الخيزران، إن انحنى لا ينكسر.
أما جديد السهو الذي عرفنا به من خلال حوار “الوسط” معه.. فهو كثير، كثر الطموحات التي يتطلع إلى تحقيقها ما بين مناقشة رسالة الدكتوراه، وإصدار روايته الجديدة، وإشرافه على مشروع “موسوعة أعلام” واستمراره في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وإن شئتم للناطقين بها أيضاً.
“منطقة واعدة”
لندع أسئلة البدايات لنهاية الحوار، وندخل فوراً إلى مسقط رأسك مدينة الحسكة، التي تتحدث عنها روايتك “تل الذنوب” قبل عام 2000 ما الذي ستكتبه عنها وعن منطقة الجزيرة الآن عام 2020 بعد كل ما جرى؟
يؤلمني أن أتحدّث عن الحسكة في ظلّ الواقع المأساويّ الذي يعيشه المواطن “الجزراويّ” البائس في تلك البقعة الجغرافيّة التي لم تعد مهمّشة، بل باتت مرتعًا لكلّ محتلّ آثم. فالحسكة –حاليًّا- تحت الاحتلال الأمريكيّ والتركيّ، لهذا السبب المباشر أرجو أن أكتب لأجيال سوف تقرأ وتقول: أيعقل أنّ الحسكة مرّت بتلك المآسي؟! وها هي تقف شامخة كعود الخيزران الذي ينحني ولا ينكسر.
أما وقد عرفنا ما الذي ستقوله لو كتبتَ جزءاً آخر. سأستوضح منك: نجد في الحسكة مئات التلال، لمَ كان العنوان مقترناً بـ “الذنوب” وما هي الدلالة إذا لم تكن الذنوب بشرية الصنع؟
بحسب الدراسات “الأركيولوجيّة” يوجد في الحسكة أكثر من ألف تلّ أثري، وهي أكثر منطقة واعدة في العالم، فتحت كلّ تلّة –من تلال الحسكة التي تتجاوز الألف- قصّة تتحدّث عن إرث حضاريّ زاخر باللقى على مرّ الزمان. هذا القول لعالم الآثار الإيطاليّ “باولو إيميليو بيكوريلا”.
في الحقيقة، هذه المقولة موجعة جدًّا، لأنّها تفتح الإمكانيّات لتكون الحسكة على رأس المعالم السياحيّة العالميّة لا المحلّيّة فقط. لكن تلك الآثار والثروات جلبت الأعداء للحسكة وأهلها، ولم يستفيدوا منها شيئًا. خصوصًا، بعد أن تحوّلت معظم تلك التلال إلى مرابض مدفعية، وساريات أعلام لم نرها طوال عمرنا، لذلك أصبحت تلك التلال مغطّاة بعفونة الذنوب البشريّة.
“فسيفساء سوريا”
اعذرني على فظاظة سؤالي فأنا أطرحه ولا أتبناه مطلقاً: ينظر البعض إلى المنطقة الشرقية وشمالها على أنها تجمّع لبيئات بدوية متخلفة عن المعاصرة! أ لم تكن مهمة صعبة أن تبدد هذه النظرة، لتعكس تلك المنطقة كمركز أثري وحضاري سوري؟
كنت أتمنى أن يوجه إلي هذا السؤال! إنما قبل الإجابة سأروي حادثة حقيقيّة جرت لطالب جامعيّ من الحسكة، تقدّم إلى خطبة زميلته في جامعة دمشق، كان ذلك في تسعينيّات القرن الماضي، لكنّ والد الفتاة اعتذر للشابّ قائلًا: آسف يا بني، كما ترى، فإنّ ابنتي معتادة على العيش في المدينة، ولا يمكنها السكن في خيمة! تفاجأ الشابّ، وقال للرجل: لكن لدينا خيمتان، لا خيمة واحدة! ولم يشرب فنجان القهوة وهمّ بالخروج فاستوقفه الرجل: ألا تشرب القهوة! فقال له: لا يا عمّاه، تركت بعيري في موقف العباسيّين وأخشى أن يتيه في المدينة! (هذه القصة تعكس ثقافة سلبيّة كوّنها البعض عن المناطق الشرقيّة، وكان للإعلام دور كبير في تهميش تلك المناطق ونشر تلك الصورة السلبيّة).
إنما الحسكة ليست تجمعًا للبيئات البدويّة، على الرغم من اعتزازنا بالمكوّن البدويّ الأصيل، بل هي فسيفساء سوريا. يعيش فيها العربيّ والكرديّ والإيزيديّ والآشوريّ والشيشانيّ والشركسيّ وغيرهم. صراحة، تلك الفئة مقصّرة في تثقيف نفسها، فالواجب عليهم أن يتخلّصوا من أمّيّتهم الثقافيّة قبل أن نبدّد تلك النظرة. قابلت الكثير من الشخصيّات الأجنبيّة وسط باريس، ووجدتهم يعرفون الحسكة كما أعرفها!
هل كان أبطال روايتك “قناديل العسكر” وشخصياتها موجودين في ذاكرتك أم أنك خلقتهم في النص كي تمرر أفكارك؟
روايتي “قناديل العسكر” هي المولود الأدبيّ البكر الذي أعتزّ به. لم تكن شخصيّات تلك الرواية حقيقيّة، لكنّها جسّدت عشرات النماذج التي نراها صباح مساء.
“تبنّي الرواية”
لماذا كان الخيار نحو الرواية؟ هل لكونها كنمط إبداعي أكثر اتساعاً للأفكار والآراء والرؤى؟ أم لأن الرواية في العقدين الأخيرين باتت مرمى هدفه جائزة؟
الرواية ليست مهنة، ولا يمكن للإنسان أن يصبح روائيًّا أو شاعرًا، إنّما هي موهبة يمكن تقويتها بماء القراءة والمطالعة والانفتاح لتنمو وتزهر. وقد شجّعني على نشر أوّل رواية الكاتبة الأردنيّة الدكتورة منى شرافي تيم أستاذة الكتابة الإبداعية في “الجامعة الأمريكيّة” بلبنان، و”جامعة بيروت العربيّة”، بعد أن رأت منشوراتي عبر “فيسبوك”، وقامت بمساعدتي، على الرّغم من عدم وجود معرفة مسبقة. وتواصلتْ مع الأستاذ الناشر بشار شبارو الأمين العام لـ”اتحاد الناشرين العرب”، وتبّنى روايتي ونشرها في “منشورات ضفاف” اللبنانيّة؛ التي يرأسها، ومنشورات “دار الأمان” المغربيّة.
كثرت الجوائز في هذا الحقل الأدبيّ لاتساع قاعدته الشعبيّة، في حين أصبح الشعر للنخب فقط. أرى أنّ الجوائز يجب أن تكون مخصّصة لمسابقات في القراءة لا في الكتابة، لأنّنا في حاجة ماسّة إلى القراءة. والنفس الإنسانيّة تميل إلى حبّ الإطراء والمديح، والجائزة هي الصورة المثلى لذلك الإطراء، فلا بأس بها، لكن الخطر عندما تتحوّل إلى هدف بحدّ ذاتها.
أنت غائب عن الوسط الثقافي السوري، ليس اسماً ولا روحاً. بل كموقع جغرافي. لمَ كان خيارك في الحرب، أن تعيش خارج سورية حرب الشوق والذكرى والأحلام، والمشاعر؟
لم أشعر بالانفصال جغرافيًّا عن الوسط الثقافيّ السوريّ. خصوصًا أنّي تلقيت تعليمي الجامعيّ في جامعة حلب على أيدي ثلّة من الكتّاب السورييّن، ومنهم: الكاتبة شهلا العجيلي، والشاعر سعد الدين كليب، والناقد مرشد أحمد، وغيرهم الكثير. كنت على تواصل تامّ ولم أبتعد عن تلك الأجواء بسبب إقامتي في حلب، قبل السفر إلى لبنان بقصد إكمال تعليمي العالي. وما زلت أتنقّل بين دمشق وبيروت، ولم أنقطع عن دمشق أبدًا.
“ظاهرة خطرة”
تقوم خلال إقامتك في لبنان، بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها. لاشك هذا يسعدك.. إنما هل تشعر بالأسى حين ترى الغرب يُقبل على تعلّم لغتنا وقراءة تاريخنا وأدبنا، بينما يحجم عنه العرب؟
أدرّس اللغة العربيّة لغير الناطقين بها، في “المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى” في لبنان والأردنّ، منذ العام 2012 إلى هذه اللحظة. لدينا طلّاب من عشرات الدول، ومن مختلف الاختصاصات على الأصعدة كافّة؛ دبلوماسيًّا، وعسكريًّا، وثقافيًّا.. أسمع منهم عشرات القصص والمواقف التي عاشوها في لبنان والمنطقة، تعكس الانحدار الثقافيّ الذي وصل إليه العرب، من إهمالهم لغتهم الأمّ وتغنّيهم باللغات الأخرى، التي لا أرى ضيرًا في تعلّمها، لكن ليس على حساب اللغة العربيّة.
كروائي ومثقف و أكاديمي.. يصح سؤالك حول كيفية الخروج من نفق الانحطاط الثقافي والمعرفي، طالما الحرب والفساد والهمّ وقلة الإقبال على القراءة كلها قناديل مطفأة في آخر النفق؟
القراءة هي اللبنة الأولى التي يمكننا تشييد مشروعنا النهضويّ عليها. لكن –في رأيي- لم تعد المشكلة أنّ العالم العربيّ لا يقرأ، بل هو مجتمع قارئ، بسبب انتشار “الانترنت”، وهنا تكمن الخطورة، لذلك يجب على وزارات التربية والتعليم في البدان العربيّة أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الظاهرة الخطرة وتضع المناهج الدراسيّة وفق أرضيّة معرفيّة معاصرة تجعل الطالب يميّز بين المفيد وغير المفيد.
“مشاريع جديدة”
والآن إذا أردنا العودة عقدين إلى الوراء، كيف سيبدو لنا فادي السهو المقبل على عالم اللغة العربية والأدب والكتابة؟
كنت أحبّ اللغة العربيّة منذ المرحلة الابتدائيّة، أعجبت كثيرًا بالقصص الأدبيّة التي كانت في كتاب المطالعة المدرسيّ. دخلت قسم اللغة العربيّة وآدابها سنة 2006 وتخرّجت في جامعة حلب عام 2010. مارست التعليم في ريف الحسكة، ثمّ سافرت إلى لبنان لإكمال دراستي في مرحلتي “الماجستير” ثم “الدكتوراه” التي سوف أناقشها قريبًا في “الجامعة اليسوعيّة” في بيروت. بالإضافة إلى دراستي الحقوق في جامعة دمشق أيضًا. لكنّ الكتابة هي جواز سفري إلى العالم، أرى فيها ذاتي.
ثمة أحاديث عن تحضيرك لرواية جديدة.. وكذلك إعداد وتحرير مجلد من “موسوعة الأعلام العرب”.. ضعنا في أجواء مشاريعك الجديدة؟
تعاقدت مع مركز الأبحاث المعروف بمركز الشرق المسيحيّ (سابقا) منذ العام 2017 من أجل المشاركة في إعداد المجلّد العاشر من “موسوعة الأعلام المسيحيّين”، لمؤّلفها الراحل الأب كميل حشيمة اليسوعيّ، ويشرف على المشروع –حاليًّا- الأب روني الجميّل. أمّا في مجال الرواية فقد كتبت رواية تصوّر الحياة الاجتماعية للأجانب في لبنان بعد نهاية الحرب الأهليّة 1975. وقد ترى النور قبيل رأس السنة.