عوربة على وزن عولمة .. د.محمد عامر المارديني
|| Midline-news || – الوسط …
أفرزت النهضة الثقافية والإعلامية العالمية، ووسائل الاتصال الحديثة، مصطلحات جديدة، تغيرت معها عديد المفاهيم التي كانت بحكم المحرمات. كما اجتاحت حركة التغيير جميع مناحي الحياة، إلى أن استطاعت أن تخترق عمق حياتنا الشخصية، فوصلت إلى غرف جلوسنا، وقعودنا، ونومنا، لا بل إلى بيوت الخلاء أيضاً.
يعرف مصطلح “العولمة” بأنه التقريب بين الشعوب من مختلف الثقافات عبر اتصال منظم بين بعضها البعض، أما مصطلح “العوربة” فهو – باعتقادي- لا يحتاج إلى أي تعريف، لأنه كما يقول الإنكليز “already” معرّف، أي إنه حكماً معرّف، نظراً لأن الشعوب العربية هي أمة مشتركة في التاريخ والجغرافية واللغة، وذات ثقافات واحدة بحكم هذا الاشتراك.
ولقد نبعت فكرة العولمة أساساً من الحاجة إلى التفاهم بين ثقافات الأمم المختلفة، من مبدأ التشاركية، لا من مبدأ الوصائية، كما تفعله أمريكا بالعالم هذه الأيام. لذلك فإن العوربة هي حالة كانت قد نشأت مع نشوء التاريخ، ولا يمكن لأحد أن ينكر تمازج الثقافات والحضارات الذي أتت به فتوحات العرب، فجعل من قرطبة نسخة طبق الأصل عن دمشق، وصار الشيوخ في بخارى وسمرقند يتباهون بلقب “الحجّي” إلى يومنا هذا. لكن بالمقابل فإن نصف أكلاتنا الشعبية احتفظت بأسماء تركية، أو فرنسية، على وزن” يالنجي، وباسمشكات، وكوردون بلو”.
أما إذا أبعدنا عن عقولنا فكرة أو نظرية الاستعمار، وخطط الاستهداف والمؤامرة، ومبدأ الاستكلاب على الثروات الوطنية، فإن العوربة ستغدو ربما منفذنا الوحيد لعبورنا إلى العالم المتحضر والمتطور، إن جرى فهمها على حقيقتها، وعندها لا خوف على ثقافتنا من التآكل، أو على لغتنا العربية من الإندثار، أو على كرامات العربان من الهدر، لأن العوربة قادرة حينها على الوقوف سداً منيعاً في وجه طوفان العولمة، لا أن تكون جزءاً منها.
لكن – مع الأسف- فإن معظم العرب قد بدؤوا بعوربة ما ليس مطلوباً عوربته. لقد تمكنوا حقيقةً من عوربة جميع وسائل الاتصال الحديثة، فها هو كثير من مصطلحاتنا قد أصبح من روح ورحيق الهواتف المحمولة، أومن معاجم الشبكة العنكبوتية. “فمسجّ لي، وشيّك لي الإيميل” جميعها أفعال أمر مبنية على السكون تمكّن شبابنا – وبحمد الله- من إقحامها في القاموس المحيط، وفي لسان العرب. لا بل أكثر من ذلك، فلقد تمكن بنو قحطان من غرس الحروف الهجائية الإنكليزية قصراً في رحم أبجدية الضاد، لتصبح العين رقم ثلاثة، والخاء رقم سبعة، وهلّم جرا.
نعم، لقد استطاع جميع أنواع العرب، العاربون والمستعربون، أن يعوربوا وبكل فخر ما يقارب من مئة مليون دولار سنوياً ثمناً “لمسجات”، أي رسائل عبر الهواتف المحمولة، تجوب أسفل شاشاتنا الفضائية الهابطة. كما استطعنا نحن العرب، وبكل اقتدار، عوربة الفلبينيات والإندونيسيات والإثيوبيات بنحو خمسة وثلاثين مليار دولار سنوياً، وعبرهنّ، ومن خلالهنَ، أمكن لنا نقل ثقافتنا ولغتنا وعاداتنا، وكذلك تقاليدنا، إلى عوالم شرقي آسيا وغرب إفريقيا.
لقد عوربنا طعام الخادمات، ولباسهنَ، وسحناتهنَ، ثم ضممناهنَ إلى مجالسنا، وإلى أماكن أكلنا وشربنا وأفراحنا وأتراحنا، إلى أن غدت ماما “سوتاتي” أم الأولاد الحقيقية بدلاً من “ماماتنا” سلوى وهدى وخديجة. فمثلاً أمكننا أن نعورب “الأندومي” إلى أن أصبح أكلتنا المفضلة عوضاً عن “الفلافل والشنكليش”، وكذلك عوربنا مهند ونور، ويحيى ولميس، إلى أن أصبحوا أشد عروبة من قيس وليلى، ومن رشدي أباظة وسعاد حسني.
أما أثرياء عرب الخليج فقد ساهموا في إطار العوربة أكثر مما فعله غيرهم بكثير، فها هي أموالهم تنضج وتتعاظم بأياد غير عربية، حيث استعبدوا ملايين البشر من أهالي الهند والسند والبنغال في شركاتهم ومصانعهم حتى احتل هؤلاء كل مكان وركن من أركان الخليج والرأس والسفح والجبل والواحات.
لكنني وبالرغم من كل ما سبق، وبالرغم أيضاً من الاجتياح السافر للثقافة وللهوية، ما زلت مؤمناً بالأعاصير التاريخية، لا بل إنني متيقن أشد اليقين، وبشكل راسخ، أن تأثير ثقافاتنا ولغتنا وعاداتنا وتقاليدنا ما زال هو الأقوى، وهو الذي سيعصف يوماً ما بحضارات العالم أجمع، مهما تكالبت علينا قوى الغدر والعدوان، ونار التنين الصيني، وأنياب نمور آسيا، وسهام خلفاء “هولاكو” و”تيمورلنك”.
وعليه، فإنني ما زلت منتظراً ذلك اليوم الذي ستصبح فيه “أكلة الكبسة” الطبق الرئيس في فيتنام ولاوس، وأن يغدو يوماً ما “الشماخ” العربي المبرقش وحياً ملهماً لمبدع الأزياء، الظاهرة “فالنتينو”، عندما يفكر في تصميم قبعاته المزركشة، وأن تحيك أميرة الأنوثة الفياضة “فكتوريا سيكريت” من روح “دشداشاتنا” الفضفاضة أرقٌ قمصان النوم.
*أديب وكاتب.. وزير التعليم العالي السابق- سوري