ذات مؤتمر .. د. محمد عامر المارديني
|| Midline-news || – الوسط …
استضافت مدينةُ الكويت قبلَ مدّةٍ مؤتمراً علميّاً دوليّاً، كنتُ من الأساتذةِ الصيادلة المدعوّينَ من أصقاع المعمورة للمشاركةِ فيه، والإسهام معهم في إثراء ندواته بأوراق البحث العلميّ الحديث، والدراساتِ المتعلّقة بكلّ جديدٍ في علم الصيدلة .
في ذلك المؤتمر صودف وجود أستاذي الذي أُجِلُّ؛ عادل، ما سمح لي أن أعرفَه عن كثبٍ، فأكتشف فيه الأخ الكريم، والشخصيّةَ الدمثة اللطيفةَ التي فرضت مهابتها بالفهم والخبرة والثقافة الواسعة على جميع الحضور في ذلك المنتدى العلميّ.
ولا يخفى على أحدٍ أنّ منظّمي المؤتمرات غالباً ما يبرمجون استراحاتٍ أو فواصلَ بين الندوات متعارفاً عليها بكلمة”بريك” بالانكليزية، يتناول فيها المشاركون بعض المشروباتِ، والمأكولات الخفيفة حتى يحينَ موعدُ غداءٍ أو حفلِ عشاء دسم .
وأثناء إحدى الاستراحاتِ جلستُ والأستاذَ عادل على أريكة في بهو الفندق (اللوبي) نتجاذب أطراف الحديث مع بضعة أساتذةٍ آخرين من بلدانٍ شتّى.
ماهيَ إلا لحظاتٌ حتى دنا مني الأستاذُ عادل هامساً في أذني مستفسراً عن مكان الحمّامات، فاقترحتُ أن نقومَ سويّةً لنستدلَّ ويتسنّى ليَ أنا أيضاً قضاءُ حاجتي.
دخلنا الحمّام النظيفَ المعطّرَ بروائحَ منعشةٍ تعكسُ فخامةَ الفندق، رقيَّه، وحرصَه على رضا النزلاء والزائرين كافّةً.
وافترقنا ليدخلَ كلٌّ منّا إلى حجرته الخاصة ” الكابين” وإذ بصوت الأستاذ عادل يناديني :
عامر يا عامر.. أنجدني، فثَمّةَ شيءٌ لا أدري ما هو، عالقٌ بسحّاب بنطالي، ويحولُ دون نزوله وفتحه ! أتقدرُ أن تساعدَني؟ فنظارتي ليست بحوزتي ولا أتمكّنُ من رؤية شيء.. تعالَ إليّ!
أجبتُه وبسرعة: حالاً حالاً أستاذي .
أقبلتُ إليه فوجدتُه بالقرب من المغاسل يقف مرتبكاً فجثَوتُ على ركبتيَّ حتى أضحى مستوى نظري موازياً لسحّاب بنطاله، فرأيتُ خيطاً سميكاً متسلّلاً من حبكة قميص الأستاذ ليتشابكَ والسحّابَ تشابكاً عنكبوتيّاً لعيناً. شددتُ الخيطَ شدَّاً قويَّاً لكنّه كان متيناً وراسخاً بشدة. نظرتُ يمنة وشمالاً أبحثُ عن أداةٍ لتقطعَه فلم أجدْ.
ما العملُ الآن يا عامر؟ قلتُ في سرّي؛ يجبُ قطعُ الخيط المتمسّك بالسحاب الرافضِ كليّةً ل”فض الاشتباك” بالتي هي أحسنُ!!
إذاً… لا بدّ من الحلّ على مبدأ: آخرُ العلاج الكيّ، والكيّ في موقفنا هذا هو استعمال أسناني دونما تردّدٍ، لأن مثانتينا هما قابَ قوسين أو أدنى من ….، ولا نُحسَدُ على إحساسنا في هذه اللحظات بتاتاً !!
وافق الأستاذ على مضضٍ بأن أستعمل أسناني، فتقبُّلُ هذه الفكرةِ بالنسبة إليه بات خيراً من ابتلال سرواله.
في هذه الدقائق الحرجة، وبينما كانت أسناني تعاركُ بضراوةٍ هذا الخيط العنيد، دخل الحمامَ أحدُ الأساتذة الكويتيين بغيةَ قضاء حاجة، وما إن وقع بصرُه علينا في هذه الوضعية غيرِ المألوفة وصعبة التبرير لأيّ كائنٍ، حتى أشاح بنظره للجهة المعاكسة، وهو عاقد الحاجبين، مقطّبُ الجبين، متمتِماً ببضع كلماتٍ لم نفهم منها شيئاً.
ارتبكنا كثيراً، الأستاذ عادل وأنا، فقلت للرجل: أرجوكَ يا أخي لا تسءِ الفهمَ وأعطني المجال لأشرح لكَ قضية السحّاب العالق.. قاطعني على الفور قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل.. ريّالين اثنين (رجلان بالكويتية المحكيّة)؟ غير معقول.. والله صرنا بآخر زمن!
قلت له بائساً: والله إنِّي كنتُ أقضمُ خيطَ السحّابِ العالقِ في البنطال.. أرجوك تعال وشاهد – بالله عليك- فلربما استطعت مساعدتي أيضاً في قطع ذلك الخيط اللعين. لقد..
عاد الرجلُ يقاطعني قائلاً بحنقٍ واضح، وهو يمسحُ جبينه بطرف “غترته” الذي تندّى عرقاً من هولِ ما اعتقد أنه رأى: اللّهمَّ لا حول ولا قوة إلا بك، اللّهمَّ إني أعوذُ بك من الخبثِ والخبائث، ثمَّ عاد فرمق كلينا بنظرةٍ ساحقةٍ ماحقةٍ، وخرج من الحمّام مسرعاً من دون أن يقضيَ أيَّ حاجة.
وأخيراً تمتِ المَهمةُ بنجاح وانقطع الخيط، فأسرعنا خارجَين من الحمّامات بعد قضاء حاجتِنا بالطبع، وبعد أن نالَنا من الحرجِ مالم ننله طيلةَ سنوات عمرنا الماضية.
عدتُ بعد حوالى ربع الساعة إلى قاعة المحاضرات، لأجدَ شخصاً آخرَ ينظر إليّ مليّاً، ثمّ ضحك عالياً وقال: عافاكَ الله يابُنيَّ، انتبه لسحّابِ بنطالك !
نظرتُ على استحياءٍ إلى الأسفل، لأجدَ سحّاب سروالي مفتوحاً، إذ يبدو أنه قد فاتني ما بينَ العُجالة والارتباك والإحراج أن أرفعه.
آثرتُ لحظتها الانسحابَ بهدوء دون التفوّهِ ببنتِ شفةٍ مع أحدٍ، وانزويتُ بعيداً على مقعدٍ خلفيٍّ، ومن ثمّ غادرتُ قاعة المحاضرات بخفّةٍ ورشاقةٍ إلى غرفتي في الفندق، مصمّماً تلك الليلةَ ألا يراني أحدٌ حتى اليوم التالي، وخلدتُ إلى نوم عميق.