ديـسـتـويـفـسـكي .. لـمـحـة عـن حـيـاتـه .. سـامـر بـبـيـلـي ..
|| Midline-news || – الوسط …
ديستويفسكي .. وما أدراك ما ديستويفسكي مالئ الدنيا وشاغل الناس على مواقع التواصل لما يحمله من أفكار عالمية تناسب كل عصر البؤس والانحطاط بكافة صوره الاجتماعية، بحيث لايخلو يوم فيسبوكي من منشور على الأقل منسوب الى الأديب الروسي العظيم فيدور ديستويفسكي.
لعل الحقبة التاريخية والفكرية التي عاشها أديبنا تتشابه إلى حد ما مع الوضع الحالي الذي تعيشه منطقتنا العربية ما شكَّل عامل استحضار لأعمال الكاتب العالمي الروسي ديستويفسكي.
:: ظروف نشأته ولمحة عن حياته ..
ظهر انشقاق حاد وصارخ بين الفئة الحاكمة والانتلجنسيا شكًّلت واحداً من أكبر الأحداث المصيرية في التاريخ الروسي التي وسمت حياة روسيا وتاريخها ، ويكاد لايكون لها مثيل في التاريخ العالمي من حيث التهاب نشاطها ، حيث كانت تطلق أجرأ الأفكار في بلد امبراطوري ليست لديه أية تقاليد راسخة في الحرية ، مع ان هذه الانتلجنسيا ليست سوى جزء من الطبقة المعوزة في المدن. وقد أفضى ذلك كله إلى نشوب صراع هائل ودام لأكثر من قرن خلف آلاف الضحايا بين الانتلجنسيا والحكم المطلق.
وفي نظرة عامة لتاريخ روسيا في القرن التاسع عشر ، نجد ان هناك سلسلة من محاولات المثقفين التي غالبا ماكانت يائسة ومحزنة للاتصال بالشعب. وكانت موضوعات الأدباء منذ بوشكين فصاعداً تتحدث عن موضيع مختلفة أهمها :
- أهمية الإصلاح .
- دور القوة والثورة في التاريخ الروسي .
- الصدع بين المجتمع المتأثر بالغرب وجماهير الشعب المتمسكة بالتقاليد القومية .
- الصدام بين تطلعات الرجل الصغير المذل والمهان وأعمال القهر التي تمارسها الدولة الكبيرة .
- قضية الإنسان الزائد عن الحاجة .
- تعقيد الطبيعة البشرية .
- فعل العاطفة المدمر وسحرها الجمالي .
- سمو القلب البسيط الأخلاقي على الادعاء الثوري الانتهازي.
ولم يكن دستويفسكي إلا كاتباً من ذلك الجيل يستوحي إيديولوجيا تقدس الحياة وتضعها فوق الفن ، أو تسعى إلى تسويغ الفن بمقدار ما يهب الحياة من تنوير وآمال في الترقي، ولعل دستويفسكي نجح في تطويع هذا المفهوم تبعا لقدراته الخلاقة ، فقد محى الخط الذي يفصل بين المنطقي واللامنطقي في محاولة لاستكشاف الواقع وجوهره ، ليس من خلال مظاهره اليومية المعتادة ، بل عبر ماهو شاذ وغريب.
ركز دستويفسكي على المدينة الكبيرة ، وعادة ماتكون شخصياته الأهم من المقيمين في المدن أو العاصمة حيث يستقصي فيها مشكلات ساكنيها ومآزقه وتناقضاته، خاصة مشكلات الرجل الصغير ، والمصير التعس لفريسة الظلم الإجتماعي في عالم مضاد ، حتى انه تم وصفه بانه سيكولوجي كشف عن تلك الأخطار التي تنطوي عليها النفس البشرية في عالم مجحف ، وراح يسبر أغوارها بقسوة وإحساس مرهف بالألم، وبصيرة حادة على نحو مرعب ، كما لو أن العين تبصر الجنة والجحيم من خلال سحب مزقتها الصاعقة.
في الثاني والعشرين من شهر شباط عام 1854 كتب دستويفسكي من منفاه في سيبيريا لأخيه ميخائيل : أرسل لي القرآن وكتاب كانط “نقد العقل الخالص” ، وإن كان بإمكانك أن ترسل لي أي شيئ بصورة غير رسمية فابعث لي بكتب هيغل خصوصا كتابه “فلسفة التاريخ” ، فعلى ذلك يتوقف كل مستقبلي.
يبرز من خلال هذه الرسالة ولع وشغف دستويفسكي بالقراءة بشكل أفقي ، وفي كل الاتجاهات الفكرية ، وتكشف عن نهمٍ غير عادي لوضع أسس ومنطلقات فكرية ستشكل نواة لمستقبله ،
وإذا سمونا إلى فهم أعمال دستويفسكي الخالدة ، يتحول إعجابنا إلى سيل جارف من الحب. لكن علينا أن نغوص إلى عمق أعماق طبائعنا وعاداتنا كي نفهم كم يمتلك هذا الأديب الروسي من أخوة عميقة وإنسانية شاملة . إن أعماله الأدبية العظيمة والواسعة ، تغدو أكثر سرية كلما حاولنا أن نتغلغل الى أعماقه البعيدة القرار، فهو مكتنف بالأسرار ، وكل شخص من شخوصه يجعلنا ننحدر كأنما الى بئر، نحو هاويات العالم الشيطانية ، وأضعف خفقة جناح من فكره تمس وجه الله مسَّاً خفياً.
وراء أعماله وكل وجه من شخصياته يملك معاً الظلام والضياء الأبديين. ليس من طريق توصلنا اليه ولا يستطيع أي سؤال أن يسبر أعماق قلبه. الإعجاب الشديد وحده ، يحق له أن يقترب منه ، متواضعاً خجلاً ، لانه لايقوى على السمو إلى درجة حبه واحترامه لسر الإنسان.
يذكرنا وجه ديستويفسكي بوجه فلاح ، خدان غائران لونهما كلون التراب ، كثير التجاعيد، حفرت فيهما الآلام خطوطاً عميقة، بشرته جافة متفلعة، ومن الجانبين قطعتان من الحجارة داميتين، وذقن ناتئة مغطاة بلحية كثة شعثاء، فوجه ديسويفسكي منظر طبيعي قوامه التراب والصخر والغابة. وقد اشتركت جميع آلات التعذيب في عقاب جسده الواهن طوال ستين سنة. وأعملت الحاجة فيه مبردها فحرمت شبابه وشيخوخته من كل عذوبة ، الألم الجسدي يرهق أعضاءه ، والحرمان يتغلغل حتى أعماق حياته ، وأعصابه تتشنج عبر أعضائه المتأججة، ومهماز اللذة يحرك شهواته ولايروي ظمأها ، لم يحرم من أي عذاب ، ولم يفته أي شقاء ، لكن قوة العقل والارادة انتصرت على الجسد المتهدم الواهن ، وعمله الأدبي هو وليد أعصاب متشنجة مرتجفة،وجسده كان يحمل أكثر علامات الآلام قسوة من تلك الصورة المفجعة للموت ، ألا وهي داء الصرع ، حيث كان ديستويفسكي فريسة لداء الصرع طوال ثلاثين سنة من مهنته ككاتب ، فمنذ طفولته كان اضطراب الحواس والضغط النفسي أول نذير بالعاطفة، وفي سجنه ظهر الألم الدفين بأعنف قوته .. هناك في السجن انفجر ضغط أعصابه.
دستويفسكي هو عالم نفسي بين علماء النفس، وأعماق القلب الانساني لها عليه تأثير سحري ، وهذا هو عالمه الحقيقي “اللاوعي والوعي الغامض وما لايسبر غوره” ، ومنذ عهد شكسبير لم نقرأ هكذا بوفرة عن سر العاطفة وعن اشتباكاتها الخفية ، وكما ان أليس تحدثنا عن بلاد الموتى ، هكذا يحدثنا ديستويفسكي عن جحيم النفس ، وهو مثل أليس يرافقه إله وشيطان .
لقد ارتقى به المرض الى العاطفة التي لايستطيع الوصول إليها الناس العاديون ، ثم ألقت به الحياة في خضم الأحزان والحسرات ، إنه كعصافير الليل يرى في الظلمة أكثر مما يرى غيره في غمرة النهار ، حيث يتلاشى الآخرون ويهلكون ، يشعر بحرارة العاطفة الدافئة ، لقد اجتاز حالة النفس الهادئة وعاش في النفس المريضة، ثم انتقل الى أحشاء الحياة السرية ورأى الجنون وجها لوجه ، وسار على ذرى العاطفة بثبات وتصلب واعتداد.