جدل الإيمان والعقل في الفلسفة الوجودية .. مريم ميرزاده ..
|| Midline-news || – الوسط …
.
قراءة في جدل الإيمان والعقل في الفلسفة الوجودية..
“يا للحسرة”!
يقولها الدانماركي كيركجارد ناقداً البروفيسور المتأمل هيغل نقداً صارماً، معتبراً أنه نسيَ اسمَه؛ الإنسان، في شرحه للوجود وسعيه لبناء منظومةٍ فكرية، ويرى بأنه أغفل بطريقةٍ تعسّفية، حقيقة أنه كائنٌ يعيشُ في عالمٍ حقيقيّ.
تطلّع كيركجارد إلى عمق الذات الإنسانية، إلى جوهر الفرد، عاطفته وإحساسه، في محاولةٍ منه لفهم حريته وخياراته وأخلاقه. فالفردُ أعلى من النوع، ولفهم الحياة والتاريخ والواقع الموضوعي ينبغي أولاً فهم الإنسان.
انشغل كيركجارد بهذا السؤال: “ما معنى أن تكون إنساناً؟” فنجده يقاربُ الوجود الإنساني في أبعاده المتعددة، من الإيمان والمقدس والحرية والفعل والحب. ففيما نراه يقف حائراً مضطرباً إذا ما صح التعبير، أمام مفارقة التجسد المسيحي، هذه اللحظة التي عدّها عثرةً في تاريخ المسيحية، شكّلت قلقاً متزايداً في حياته، يعود فيميز بين المسيحية وتاريخها.
قامت المسيحية على لحظةِ تجسد الأزلي في التاريخي، أو الإلهي في الإنساني والتسليم أمام هذا الحدث اللامعقول أو غير المفهوم عقلياً، بينما المسيحيون اللاحقون سلّموا للتاريخ وليس للحدث نفسه، فتديّنوا بدين آبائهم الذي وجدوهم عليه.
لعلّ هذه اللحظة هي التي سيطرت على فكر هيدغر فصبّ اهتمامه على المسيحية التي جاءت لتكشف عن ماهية الفلسفات اليونانية، واعتبر أن المقدس الذي كان مصدر إلهامٍ للإنسان القديم، لم يعد كذلك بالنسبة إلى معشر المحدثين، الذين اختزلوا المقدس في الشعائر التي ليست سوى “ذكرى” المقدس، التي تعبر عن انسحاب الآلهة. ولعل هذه الفكرة هي ما ذهب إليه الميتافيزيقيون المتأخرون، لاهوتيو موت الإله، هيغل ونيتشه.
إننا نجد فكرة “موت الإله” في حقباتٍ تاريخيةٍ تحمل مقارباتٍ مختلفة. فقد عبر هيدغر عن “موت الإله الأخلاقي” حيث إن ارتباط الألوهية بالقيم حصراً تحطّ من ماهية الإله. وعبّر هولدرلين في شعره عن “فرار الآلهة”. ونرى في الحداثة جان بودريار معتبراً أن تقديس الرمز والدلالة والمعبد والمعاني المصطنعة، ما هو سوى تماهٍ في قتل فكرة الإله الواقعية.
بالعودة إلى الرومانسي كيركجارد، فإننا نجد الخلاص في وثبة الإيمان، تلك القفزة في وسط الظلام، ظلام الحيرة والقلق واللافهم، فالإيمان يقوم على الغموض، ولا قيمة لإيمانٍ قائمٍ على الوضوح، الذي تتسم به البراهين العقلية وفق معطياتٍ تخمينيةٍ قد تتغير، فتنسف النتائج بتغيرها، ما أسماه الفيلسوف الدانماركي بإشكالية التعويق والتعليق.
هذه الرومانسية تلتقي برومانسية برغسون، تحديداً عند تقاطع الغريزة التي تمثل لدى كيركجارد المرحلة الحسية من حياة الفرد، حيث اللذة الطفولية التي لم تروضها المرحلة العقلية بعد، والتي اعتبر أن الموسيقى هي أفضل ما يعبر عنها، متأثراً شخصياً بموزارت. هذه الغريزة التي يمثل الحدس البرغسوني أعلى تجلياتها، لدى المتصوفين السالكين مسلك الدين المتحرك المتعالي.
هكذا يمكن تجاوز المنطق لدى برغسون وكيركجارد، الذي يخلص إلى أنّ الحرية هي فعلٌ سابقٌ على المعرفة والفهم، ذاهباً إلى تحليل معنى الخطيئة، فالوعي الذي حصّله آدم من شجرة المعرفة المحرّمة، جعله يرتكب الخطيئة ويستحق العقاب؛ تلك هي حرية الاختيار، الحرية القلقة، المرتعبة المضطربة التي تجنح إلى الخطيئة وتنجذب إليها غريزياً، نازعةً منه حريته اللاواعية، داعيةً إياه للقفز بدافع القلق في الظلام؛ للهبوط على الأرض.
فإذا كان الإيمان فعلاً حراً منطلقُه روحي، ما فوق- عقلي، وإذا كان المنطق والفلسفة قاصرَينِ عن البرهنة الاستدلالية على الاعتقاد الديني والإيماني، وإذا كان اللاهوت الطبيعي عاجزاً بمختلف مناهجه النظرية والعملية عن شرح هذه القوة الذاتية الدافعة التي كثيراً ما شبّهها كيركجارد بقوة الحب، وإذا كان لا يحتكم إلى العقل إلا في معرض دحض الادعاءات المهاجمة للاتجاه الإيماني والديني، كما ذهب بلانتينغا ودعاة الإبستمولوجيا المعدّلة، فما الذي يقدّمه العقلُ اليوم بديلاً، في ماوراء الفكر التصوري واللغة الميتافيزيقية؟ وأيُّ ضمانةٍ يتيحها العقلُ بعدما أُثبت التاريخُ دائماً هزل العلم وعدم ثباته وبنيانه المتداعي فوق أسسٍ وفرضياتٍ تخمينيةٍ لا تقدم يقيناً بقدر ما تقدم احتمالاتٍ متغيرة بتغير المعطيات؟.
ألا يعدّ من الحكمة على أقل تقدير، أن ينحو الإنسان المعاصر اليوم منحى العقلاء الذين يبررون إيمانهم بالاستدلال العملي، حيث لا يخسر المؤمن شيئاً من إيمانه، بينما قد يبتلى الملحد بالشقاء المؤبد على تقدير وجود الله؟.
وإذا ما أدهشنا الخيال الهولدرلينيّ، هل إننا سنكتفي بالشعراءِ حقاً، بعد هروب الآلهة من هذا العالم؟ أم أننا سوف ننتظر المستقبليين ليتداركوا الخطر الذي يهدد الأرض؟
ألا يجدر بالإنسانية أن توحد الصف اليوم لمواجهة الابتلاءات المتتالية، أكانت مفتعلةً أم منزلة؟
ألسنا نحن “الإنسان الأخير”؟
ألسنا إنسان نهاية الميتافيزيقا؟ هذا الدازاين المقذوف عرض الجماهير، والذي بدأ منذ زمنٍ، يفقد الكثير من أصالته، من هويته؟
تحية لفيلسوف الغابة السوداء، إذ قال: “أنتَ أخيرٌ يا صاح، لأنكَ لا أحد…”.