النقد في مواجهة الذات .. أحمد علي هلال
|| Midline-news || – الوسط …
في المشهد الثقافي؛ ثمة جملة من الظواهر التي تسترعي الانتباه، وتتطلب قراءة فاحصة لماهيتها، وخصوصياتها بمعنى تشكيلها الكلي لثقافة متكاملة أم مفارقتها لها تحت ذرائع منها تبديد طاقة الأديب! ومن تلك الظواهر على سبيل المثال ظاهرة الأديب الناقد، أو الشاعر الناقد، أو الروائي الناقد، وهكذا.. إذ كيف لنا أن ننظر هنا إلى هذا التعدد الذي أصبح بحدود معينة حقيقة وليس محض افتراض؟
لعل السؤال هنا كما يذهب بعض النقاد في وصف هذا التعدد على أنه «تبديد للطاقة الإبداعية» أو هدر لها بشكل أو بآخر، فيما يذهب غيرهم إلى دينامية الإبداع وقدرته على أن يتشكل بمستويات متعددة، تلك خيارات إبداعية تحكمها التجربة، والتي يحرص المبدعون على تلوينها لتأخذ في كل مستوى شكلاً بعينه لا يقود بالضرورة إلى هدم غيره، وهذان الرأيان سيقودان إلى حقيقة الأدب ذاته، الأدب المخترق والذي استدعى معه ظاهرة جديدة/ قديمة هي تراسل الأجناس الإبداعية، وذلك يبدو على الأقل هنا أقرب إلى تعليل سيكتفي بتوصيف جملة من الظواهر القارة في الوجدان الجمعي الأدبي، إذ إن حقائق الأدب في هذا السياق غير منتهية لأنها تنفتح على مدى ما تمنحه التجربة للمبدع من قيم مضافة، لعل كثافتها ما تشي باستنهاض ما يمكن تسميته بالتجريب والمغامرة، اللتان تمنحا المبدع قدرة على اختبار الشكل عبر معيار التجربة وقدرة على اختبار المضمون الموائم، وذلك عبر الذائقة المركبة، وبطبيعة الحال هنا نسأل عن الإضافة في كل مستوى، لا بمعنى أن يهدم المبدع بشكل كامل ما أنجزه لينتقل إلى المستوى الآخر، بل يتأمل ما أنجزه ليصطفي منه عبر حركية الفكر ومنظومة التفكير وانفتاح الذهنية ما يناسب المستوى الجديد.
ذلك السياق الذي أوحى لكثيرين وعلى سبيل المثال أيضاً بأن «الناقد مبدع فاشل»، وهذا ليس دقيقاً بخروجه عن منطق التحليل والتعليل لمسألة الصيرورة التي يكون عيها الكاتب، إذ تتطلب –هذه الصيرورة- ذلك التراكم الخلاق والذي يسفر بدوره عن معطى يسم حركة الإبداع لديه، فأن يكون النقد «أعلى أصوات» المبدع فذلك يشي وكما تواضع عليه النقاد، بالقدرات التحليلية للكاتب والتي قد تذهب أكثر من مجرد كتابة رواية أو قصيدة، ذلك أن التفكير الشعري أو الروائي، حصيلته تفكير نقدي يذهب إلى استدعاء ممكنات فكرية تشكل الحامل للكاتب والمُعَلّل لقدراته الاستبطانية والاستبارية والاستعائية، والتي تسفر عن أشكال المقاربة الإبداعية وتجلياتها المختلفة، فالتعدد هنا قيمة مضافة ستعود بجمالية المعرفة التي تجهر بها عوالم المبدع/ الكاتب.
الأمثلة على ذلك كثيرة في الفضائين العربي والغربي وعلى سبيل الخصوص ما أنجزه «إمبرت انريكي امبرسون، ايتالو كالفينو، وماريو باراغاس يوسا، ورولاند بارت، وإدواردو غاليانو» وليس انتهاءً بـ «امبرتو إيكو»، ونظرائهم في الفضاء العربي الذين مازالوا يمارسون أفعال التجريب ويختبرون الأشكال الإبداعية وصولاً إلى ما يعني في ذائقتهم ليس صفاء النوع الإبداعي بقدر ما ينطوي عليه من دينامية تشرك القارئ بتأويلها، والذين يرسمون اتجاهات الثقافة العربية بمكوناتها المختلفة، مازالوا يعللون معادلة الأديب الناقد بأجلى صورها، وعندهم أن التعدد سيفضي ليس فقط إلى اختبار الأشكال واستحقاق فكر الشكل، بقدر ما ينطوي عليه ذلك -جوهرياً- من استدعاء لفضاء القارئ/ القارئ الذي يشكل الدال الفاخر -بحسب الناقد الفرنسي بارت-، ذلك أن الدال الفاخر ليس محصور الدلالة وضيقها، بل هو الذي ينفتح باستمرار على حقائق الإبداع اللامنتهية، وانكشاف طبقاتها ومستوياتها على النحو الذي يمنح المعنى في كل شكل ومقام، وهذا المعنى هو حصيلة ذائقة جمعية بامتياز.
*كاتب وناقد- دمشق