“الـصـابـري” .. محمد الترهوني ..
|| Midline-news || – الوسط …
.
في “الـصـابـري”، الحي الذي تربيت فيهِ، لا وجود لحدائق واسعة، لا وجودٓ لعقلية تفترضُ وجود حديقةٍ في كل حي، فمن أين ستأتي الحدائق !؟.
البحرُ بكل زرقتهِ موجودٌ في “الـصـابـري” منذُ بداية الحنين، لا أحدٓ في هذا الحيّ يفكرُ في استبدالِ اللون الأزرق باللونِ الأخضر، هذا أمرٌ يسخر منهُ حطام السفن على الشاطئ.
لا تنتظر أيّ بنت في “الـصـابـري” أنّ يملأ حبيبُها فمَها بالورود، بل تنتظر أن تخترقٓ أصابعهُ قلبَ كل من يقترب منها في الشارع.
في “الـصـابـري”، الحدائق ترفٌ يصعبُ تصورهُ، الحدائق والكتب التي تشبهُ الغابات ينظرُ إليّها كمتعةٍ دخيلة.
في “الـصـابـري”، الكتب ليست من مُعطيات أفكارِ هذا الحي الشرس عن نفسه، من غير اللائقِ التعلقُ بالكتبِ وتركِ البحر وحده.
هناك علاقةُ تفانٍ غير متبادلة بين أطفال “الـصـابـري” والبحر، في قلبِ كل طفلٍ في حيّنا حبٌ للبحر ورعبٌ منهُ لا يمكن التنازل عنه، لأنّ الحبّ لا يمنع البحر من الظهورِ في لحظةِ عنفهِ القصوى ليقنعٓ أحد الأطفال بالذهابِ معهُ في نزهةٍ أبدية، للبحرِ طريقتهُ في الاحتفاظِ بمنّ يحبونهُ.
في “الـصـابـري”، الكلمات التي يجبّ تذكرها وحفظها ليست الموجودة في كتب المدرسة، ولا تلكٓ التي يعتبرها البحرُ سراً، بل الكلماتُ البذيئة و الفاحشة الموجودة في كتاب الشارع.
لا تقرأ الأمهات في “الـصـابـري” لأبنائهنّ فصلاً ظريف من قصةٍ مشوقة قبل النوم، الأم في حيّ مثل “الـصـابـري” ما يهمها قبل كل شيء؛ هو أنّ يكون ابنها هو المنتصر في كل المعاركِ خارج البيت! تعملُ بكل جهدٍ لتتخلّص أنت من الطفولة بسرعة لتعيش حياةٓ المجرمين الكبار في الحي.
وفي “الـصـابـري”، لا يهم الأطفال ما تفعلهُ وأنت وحدك، يهمهم وأنت معهم أن تكون مستعداً للسعي بضرواةٍ للنيل من أعدائهم و أعداءِ الشارع.
في فيلمٍ بعنوان”البنفسج الأرجواني”، يعمل “إدوارد بيرنز” كمحامي لصديقهِ منذُ الطفولة، الكاتب “باتريك ويلسون” عندما يسأل الكاتب صديقهُ المحامي إذا ما قد قرأ مخطوط كتابهِ الجديد الذي بعث بهِ إليه، يجيب بـ “لا”، ينزعج الكاتب ويسأل: لماذا لا ؟، فيجيب المحامي قائلاً : بصراحة، رأيتك و أنت تعانق المرحاض وتتقيأ فيهِ أحشائك خارج بطنكٓ، من الصعب يا صديقي تلقي كلماتك بجدية كبيرة الآن.
أعتقد أن هذا هو حال كاتب من “الـصـابـري” مع أصدقاء الطفولة، يجب الاعتراف أن ما يطلق عليه (مدينة) في الدول العربية لا يتضمن طريقة أهل المدن في الشعور و الحياة، الحياة في المدن العربية أصغر من حجمها الطبيعي، أما الأحزان فيها فهي كبيرة ومقسمة على هذهِ المدن بالتساوي، هذه المدن لا تقبل أن تكون الحدائق جزءاً من تصورها عن نفسها، الحدائق فيها ستصبح حكاية ملفقة ليس لها مغزى سوى التسلية.
أما التعامل مع الكتاب خارج المدرسة فهو بدعة ونوع من الوقاحة بالنسبة لأطفال الحي، ليس في وسعِ حتى كبار الحي السيطرة على التشويش الذي يمكنُ أن تحدثه الكتب، محبة الكتب في “الـصـابـري”، أو في هذا الجزء من العالم، يجب أن تولد من العدم، يجب أن تظهر فجأةً كظهورِ وجهِ حبيبتكٓ.
المكتبة كجزء من البيت فكرة برجوازية، لا يمكن أن يتقبلها عمال البحر، وأصحاب السكاكين في السلخانة، الفقراء محكوم عليهم بعدم الأهلية والكتب قد تتسبب في أخطاء مريعة.
لا فائدة بالنسبة للفقراء من الاحتفاظ بالكتب، فوجودها يبعث الريبة في النفس، كل أبّ في “الـصـابـري”، يخافُ من تحول ابنه إلى (وجودي) أو (ماركسي) أو (لامنتمي)، بالنسبة للأباء عنف الكتب يشبهُ عنف البحر في حده الأقصى
هناك دائماً خوف من صمت النظر إلى الصفحة، لهذا، المدن العربية تتميز بتفوق ملحوظ لنشاط الأذن على العين.