إضاءاتالعناوين الرئيسية

“مقادم الجنرال ديغول”.. د.محمد عامر المارديني

|| Midline-news || – الوسط …
.

أتخمَني طعامُ العشاء كثيراً فثقلَ عليّ، وخاصةً حين حانَ ميعادُ نومي؛ إذ أصابني أرقٌ شديدٌ جعلني أتقلّبُ في فراشي من جهةٍ إلى أخرى، فأعانقُ وسادتي تارةً، وتارةً أستلقي على بطني، ثمَّ أنهضُ فأذهب إلى المطبخِ لأفتحَ الثلّاجةَ، إما لأشربَ جرعةَ ماء، أو لأتناولَ حبّةَ فاكهة … إلى أن مضت ساعاتُ الليلِ، وبدأت خيوطُ الفجرِ تتسلّلُ من بين ستائرِ الغرفةِ معلنةً بدءَ نهارٍ جديد، ولمَّا يعرفِ النومُ طريقهُ إلى الجفون. غادرتُ سريري إلى غرفةِ الجلوسِ، واضطجعتُ على الأريكةِ الكبيرةِ مقلِّباً يُمنةً ويسرةً بينَ القنوات التلفزيونيةِ على جهازِ التحكّمِ عَلِّي أهتدي إلى ما يهدِّئُني ويستجلبُ النّعاسَ إلى عينيَّ فأنام . وخلال تَجوالي على محطاتِ التلفزةِ، استوقَفني برنامجٌ وثائقيٌّ يحكي سيرةَ العالِمِ الفرنسيِّ رينيه ديكارت.
توقّفتُ برهةً إلى أن ينهيَ المعلِّقُ كلامهُ قائلاً إنَّ ديكارت الذي ولدَ وعاشَ بين القرنَين السّادسَ عشرَ والسّابعَ عشر يعَدُّ أبا الفلسفةِ الحديثةِ، وهو رائدُ مذهبِ العقلانيّةِ الذي اخترعَ نظامَ الإحداثيّاتِ الذي يُعتبَرُ النّواةَ الأولى للهندسة التحليليّة. همَمتُ بتغييرِ البرنامجِ غيرِ الملائمِ لمَن جافاهُ النومُ الهانئُ، باحثاً عن آخرَ أخفَّ جِديّةً، أو بعض الموسيقى، فلربّما ساعدَت على الاسترخاء، إلا أن جملةً واحدةً كانت كفيلةً بشدِّ انتباهي مجدّداً إلى ديكارت، الذي بدأ الرّاوي يحكي عن أوصافهِ الغريبةِ كمثلِ ارتدائهِ الملابسَ المزركشةَ… إلى نهاية كلامهِ قائلاً إن ديكارت صاحبُ النظريّةِ الشهيرةِ : ” أنا أفكّرُ ، إذاً أنا موجود.” لا أعرفُ لماذا استوقفَتني الجملةُ الأخيرة وأنا الذي سمعتُها وقرأتُها مئاتِ المرّات. أطفأتُ التلفازَ، وبدأتُ أحاورُ نفسي بهمسٍ مسموعٍ، وكأنني أخاطبُ ديكارت الماثلَ أمامي بثيابِ (البلياتشو) قائلاً له : إن مقولتكَ يا سيد ديكارت قد بلغت من العمر حوالي أربعمائةِ عامٍ، فلماذا لا تدعني أقل مثلكَ عباراتٍ تتناقلُها الأجيالُ ويخلِّدها التاريخ؟ وبماذا تفوقُني يا ديكارت؟! صحيحٌ أنّ لك كتبَكَ وعلومكَ ومعارفَكَ في الحياة، ولكنّي أيضاً أملكُ خبرتي الواسعةَ وفهمي الذي يمكن أن يتيحَ لي قولَ المأثور، ويسعفَني في ذلك. قهقهَهَ ديكارت قائلاً : لم لا ؟ فكّر بما تشاء وكيفما تشاء! فتفكيرك يعني وجودكَ، ولكن إياكَ أن تعيرَ بالكَ لأحدٍ عندما تفكّرُ، فقد دانني الجميع ممّن عاصروني دون استثناءٍ، حتّى جامعتي جامعة أوتريخت استنكرت تفكيري وقزّمت نظريّاتي، ولكنّ العالمَ برمّتهِ اكتشفَ متأخراً أنّني رجلٌ من التاريخِ وللتاريخ. لحظاتٌ انتابتني بعدها نوبةٌ من الضحكِ، قلتُ لنفسي : ما هذه الأفكارُ المجنونة ؟ أين أنتَ من الثريّا التي اسمها ديكارت؟ هل تقارنُ نفسك به؟ ويحكَ ! ومع ذلك ما المانعُ أن تخوضَ غمارَ هذه التجربةِ التي تلمع في ذهنكَ، و تتلمّسَ ردودَ الأفعال بنفسك في تفاعل الناس مع ما تقول و”تتفلسفُ”! بدأتُ أفكّرُ قليلاً، وقرّرتُ أن أطلقَ العنانَ لمخيّلتي فأكتبَ حِكماً وعباراتٍ مفبركةً أنسبُها لمشاهيرَ من الفلاسفةِ والأدباءِ والقادة أمثال آينشتاين، شكسبير، هتلر والمنفلوطي وسعد زغلول وغيرِهم، فأرسلها عبرَ ” الواتساب” ذلك التطبيقِ العالميِّ الذي ملأ الدّنيا وشغَلَ الناسَ، فباتَ الهمُّ الشاغلُ لدى هؤلاء أن يرسلوا الصباحاتِ الورديّةَ، والمآثرَ الشعريةَ، والفتاوى الدينيّةَ المُرتابَ في صحّتها، إلى مَن يعرفونه أو يحفظونَ رقمَه في جوّالهم ليصبحَ ذلكَ عادةً تقاربُ الإدمان !

وأوّلُ ما لمعَ في ذهني عبارة : “السمنةُ داءُ الفقراءِ”.. لا أدري كيفَ ومن أينَ أتتني ولكنّي ألفيتُها ملائمةً لرجلٍ من أعلامِ التاريخِ كَلِينين وذيّلتُها بجملة : عبارة هزّت عرشَ الامبريالية . وأرسلتُها إلى خمسةٍ من أصدقائي ” الواتسآبيين” لأنتظرَ ما ستفعلُ وتؤثّر . و بضع ساعاتٍ لاحقاً، عادت إليَّ رسالتي نفسُها من صديقين مشتَركَينِ بيني وبين الخمسةِ الآخرين. ضحكتُ كثيراً غيرَ مصدِّقٍ لما جرى وقلتُ في نفسي : غريبٌ أمرُ الناسِ كيفَ ينساقون بلا وعيٍ هكذا !! راقت ليَ الفكرةُ العبثيّةُ، وقررتُ معاودةَ الكَرّةِ كلّ يوم عوضاً عن إرسالِ صور الزهور والأماني وغيرها ممّا استُهلكَ وبكثرة، مستخدِماً أقوالاً برّاقةً منسوبةً لأسماءَ معروفةٍ.
في اليومِ التالي سارعتُ إلى محمولي وأرسلتُ : “شربةُ ماءٍ دافئٍ تزيدُ عمركَ يوماً، وشربةُ ماءٍ باردٍ تنقص عمرَكَ يوماً”، ونسبتُها لأبي بكر الرازي. ثمّ عدتُ فكتبتُ مساء الخميس قولاً مأثوراً بدلاً من ” هلا بالخميس ” واستعداداً لفطورِ يوم الجمعة ونسبتُهُ لابن النفيس : “حبّةُ فولٍ مبتلّة قد تنقذ شرايينَكَ من السّقمِ والعلّة”. أما صباحَ الجمعة فعوضاً عن ” جمعة مباركة” اخترتُ على لسان هتلر عبارةً أهداها لزوجته إيفا براون : “الحبُّ جوادٌ أصيل لكنّنا لا ندري متى يجمح “.. يوماً بعد يوم غدت رسائلي تسبحُ عبر أثير الهواتفِ المحمولة بانتظامٍ وتذهبُ من خيالي لتعودَ إليَّ عشراتِ المرّاتِ، حتى كاد بعضُها يصبحُ حديثَ البلد ! وذاتَ صباحٍ كتبتُ: “هل تعلم أن كلَّ باقةِ كزبرةٍ تعادلُ قرصاً من الفياغرا ؟” بعد أيامٍ معدودةٍ من واقعة الكزبرة، وبمحضِ الصدفةِ، طلبَت مني زوجتي إحضار حزمة ضرورية لإعدادِ إحدى أكلاتي المفضلةِ وهي : الفول المقَلّى . قصدتُ جارنا بائعَ الخضرةِ لأبتاعَ منها، ولكن لسوء حظي كان كلُّ مخزونِ الكزبرة قد نفد عنده وعند كلِّ أقرانه من الباعة خلال ساعة واحدة فقط ! قلت له : لا بأس هل تؤمّنُ لي واحدةً صباحَ الغد ؟ أجاب بصوتٍ خفيضٍ كمَن يبيعُ بضاعةً ممنوعةً وهو يغمزُ لي بإحدى عينَيه : بكلّ تأكيد سأؤمّنُ لكَ ماتطلبُ، ولكنَّ سعرَها سيكون إكسترا وهمس في أذني عن شهرة الكزبرة وارتباطها بالفحولة. لم تصدّق زوجتي حكايةَ نفاد الكزبرة والسبب وراء ذلك، واستغربتِ الأمرَ أشد استغرابٍ وقالت: مؤكّدٌ أنكَ تمزح ! أقسمتُ لها قائلاً : لا واللهِ العظيم. ضحكت على استحياءٍ وقالت : دعنا من الآن فصاعداً نحفظ مؤونةً من الكزبرة المفرومة في الثلاجة تحسّباً لفقدانها ، فأنتَ لاتستغني عنها في الحرّاق بإصبعه ، والبامية ، والملوخيّة أليس كذلك ؟ قلت ضاحكاً رافعاً لها الإبهام علامةَ الموافقة والتأييد : هو كذلك . وفي إحدى المرّاتِ نشرتُ عبارةَ :
“هل تعلم أن ديغول قد تناول فتةَ المقادم في أحد مطاعم دمشق عام ١٩٢٧ ؟” وبعدها بأسبوع مررتُ في حيّ الميدان لأستطلعَ ماذا حلّ بمقولتي تلك.فوجدتُ المطاعمَ مكتظةً بالروّادِ الراغبين في التهام أطباق المقادم، تحاملتُ على نفسي وحبستُ أنفاسي تفادياً لاستنشاقِ روائحِ سلق مقادم الغنم المثيرة للغثيان، واقتربتُ من أحدِ أصحاب تلك المطاعم لأسألَه : غريبٌ هذا الازدحامُ الخارجُ عن المألوفِ في مطعمك ، واليوم ليس بيوم جمعةٍ ولا هو بعطلة رسميةٍ، فما الأمر ؟ قال بثقةٍ وخيلاءٍ : أنت لا تعلمُ شيئاً عن شهرة فتة مقادمي، أقصد فتة المقادم في مطعمي ! إن عمرَ مطعمي هذا تجاوز المئتي عام، وفي مطعمي تغدَّت الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا، وكذلك تعشّى الجنرال ديغول وبعدها تمشّى عام ١٩٢٧ في أزقّةِ دمشقَ! استأذنتُ صاحب المطعم أن يحجزَ لي طاولةَ ديغول عينَها لأتذوّقَ فتة المقادم التي نالت استحسانَ الساسةِ الأوروبيين. عدتُ إلى البيت أحلّلُ في ذهني ما أثمرت عنه تجربتي من كشفٍ للأخطاءِ والملابساتِ الفادحةِ في تسويقِ التاريخِ، وترويجِ الأكاذيب التي اجتاحت وسائلَ التواصل الاجتماعيِّ، فأصابت الحقيقةَ وحقائقَ العقلِ والمنطقِ في مقتل ! وقرّرتُ إنزالَ ستارة الختامِ على هذه المهزلة وإنهاءَها، بعد تيقُّني أنّ ثقافةَ القطيعِ باتت راسخةً في أذهاننا على مبدأ : دعِ التفكيرَ لنا واستمتع بالتبعيّةِ . و ناديتُ ديكارت بصوتٍ عالٍ قائلاً له : تبّاً لمقولتكَ : ” أنا أفكر ، إذاً أنا موجود ” فقد أثبتَت أنّها مقولةٌ عفا عنها الزّمنُ وأكلَ عليها الدّهرُ، وها أنا أكتشفُ نقيضَها تماماً : أنا لا أفكّرُ …. إذن أنا موجود !!!!

 

*(أديب وكاتب- وزير التعليم العالي السابق- سورية)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك