في انبجاس المعنى وزيف الصورة … بقلم : مريم ميرزاده
|| Midline-news || – الوسط …
.
الدور الذي يخدم السلطة أولاً وآخراً، إذ توفر السلطة مسبقاً أدوات توجيه الرأي العام وصناعة الجمهور وحشده بما يتوافق ومصالح الدولة، أو بمعنى أصح، يكون مصطلح “الدهماء” الأرسطي أو “القطيع” النيتشوي أقرب إلى معناه الأكثر رقياً وحضارةً، ربما لكثافة الصور، التي باتت تخفي الحقيقة في مكانٍ ما.. ربما!
هذا التفاعل القائم بين متغيرين في العصر الحديث، هما وسائل الإعلام وتوجه الجماهير، فسّرته نظرية “دوامة الصمت” التي خرجت بها العالمة الألمانية إليزابيث نويل نويمان، مفسرةً سلوك الجماهير تجاه الأحداث المجتمعية. فالمجتمع المعولم حافلٌ بقدرٍ كبيرٍ من الرموز المشبعة بالمعاني الذاتية التي خلقتها وسائل الإعلام، مما أدى إلى هيمنة المصطنع واحتجاب الواقع. النتيجة عالمٌ فوق-واقعي افتراضي تكنولوجي، فقدت فيه الأشياء قيمتها التي صارت مرتبطةً بقدرتها على الغواية. معظم الأفراد سوف يتحركون في الاتجاه الذي تدعمه وسائل الإعلام، وتصنعُ من حوله هالةً من غوايةٍ جاذبة. إنه هكذا يتسق الرأي العام مع الأفكار التي تدعمها هذه الوسائل. فنرى أن وسائل الإعلام الجماهيري تتخذ موقفاً مؤيداً لقضيةٍ من القضايا ونجد أن معظم الأفراد يؤيدون هذا الاتجاه الذي يلقى تأييد الرأي العام. فيما نرى جماعةً أخرى معارضة تلتزم الصمت تجنباً للاضطهاد والعزلة الاجتماعية، فيحجبون آراءهم المعارضة لرأي وسائل الإعلام، تماماً كما يحتجبُ الواقع. والسكوت هنا علامة الرفض لا الرضى. وهو ما يعرف بالرأي العام الكامن الذي لا يظهر إلا في بيئةٍ ديمقراطيةٍ حاضنة. فكم من مفكرٍ نشر مؤلفاته وفكره في بيئةٍ منغلقة على آرائها رافضة لأي فكر آخر، من أمثال الكثير من الإصلاحيين في الدول الإسلامية على وجه الخصوص، مثل علي شريعتي، محمد إقبال اللاهوري، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني وسواهم. وهي ظاهرةٌ ليست بالجديدة، فنرى مثلاً أفلاطون الذي كتب أفكاره الأولى تحت اسم سقراط، الذي غدا شخصيةَ حكيمٍ فيلسوفٍ أول، بينما يجمع الفلاسفة الحديثون على أنه اسمٌ مستعارٌ لشخصيةِ أفلاطون الافتراضية.
ربما لا يمكن لمفهوم الحرية أن يتحقق في منطقتنا طالما أن الفرد مسلوبُ الإرادة مقولب الفكر موجّه الميول بما تريده السلطة له في مجتمعٍ تشكّله بإرادتها؛ إرادة السلطة التي صاغت شعبوياتٍ ملوّنة تارةً على مبتنى القوميات، وتارةً على أيديولوجياتٍ مختلفة. هذا التدفق في رغبة السلطة التي لا تنتهي وفق تعبير جيل دولوز، لا تزال جامحةً في تجليها في بلداننا العربية عموماً. ولا يمكن أن يصارَ إلى بناءِ مجتمعٍ حرٍّ وسليم طالما أن لا صوت يسمع للمعارض ولا يعرف الرأي الآخر بل يكون مبعداً منفياً إلى قوقعته وبؤسه وقهره.
ربما لا ينتهي الصمت اللولبي أو دوامة الصمت، طالما أننا في عصر الصورة، وزيف المصطنع واختفاء الواقع، ولعلّ صناعة الرأي العام في الوسائل الجماهيرية ما هو إلا حشدٌ للصور المصطنعة والتمثيلات البعيدة عن الحقيقة، فكيف يكون للصوت المعارض الذي يرى الحقيقة في مكانٍ خفيٍّ آخر، أن يعلوَ وسط الرأي الجماهيري الزائف، وهذه الكثرة التي يؤدي تفاقمها إلى انبجاس المعنى، ولا معنى. فالعالم انتهى بفعل التسريع افتراضياً. فقد تم تجاوز كل القيم والتقدم والغايات وتجاوز النهاية إلى ما بعد النهاية، حيث إننا ذهبنا إلى أبعد مما يجب أو إلى الجانب الآخر. إنها بتعبير بودريار ارتكاسةٌ عشوائيةٌ ورجوعٌ إلى الوراء بفعل المكوث في الفراغ. فالحنين لا ينشأ إلا حين يختفي الواقع، ويعبر عن حاجة البشر إلى ماضٍ مرئيٍّ واستمراريةٍ مرئيةٍ وأسطورةٍ مرئيةٍ للأصل، ما يطمئننا حول نهاياتنا. يذكرُ بودريار أنه لا بدّ لكي تبقى الإثنولوجيا، من أن يموتَ موضوعها الأصلي، ما أطلق عليه مصطلح “البعث الوردي”. ويعبّر عن أن العلم حلّ محل النظام الرمزي البطيء فسارع في قتل المومياء عندما نقلها إلى المتاحف، فقط ليعيد بعثها، بما اصطلح عليه ب”عنف الحضارة” الذي لا علاج له مما من شأنه زيادة الاصطناع، وهكذا فإننا نعيش في عالمٍ شبيهٍ بأصله إلى حدٍّ غريب.
.