عن الفيلسوف السوري تيسير شيخ الأرض .. والفلسفة “الكُلّانيَّة” ..
|| Midline-news || – الوسط ..
ولد تيسير بن أحمد شيخ الأرض في دمشق عام 1923 في حي الميدان التحتاني الذي يمثل القسم الأكبر من دمشق القديمة.
عمل في التعليم الابتدائي وأتقن اللغتين الإنكليزية والفرنسية ، و إِثْر خلاف بينه وبين مدير مدرسة عمر الفاروق التي كان يعمل فيها ترك التعليم عام 1943، وراح يعمل من وقت لآخر في إعطاء الدروس الخصوصية، إلى أن جمعته الظروف عام 1945 بمدرس التاريخ الذي كان مديراً لمدرسة المقاصد الخيرية، وقرر مساعدته في متابعة دراسته، وكانت نفقات دراسته دَيْناً عليه لجمعية العمل الخيري في كلية المقاصد الخيرية، حيث ملأ “سند تعهد” موقَّع بكفالة من والده.
عام 1948، التحق بقسم الفلسفة المفتتح حديثاً في كلية الآداب من الجامعة السورية.
ومع أن حياته في دمشق اتسمت بالعمل والدراسة وحساب الوقت بالساعة والدقيقة، حرصاً على عدم تضييعه في ما لا طائل منه، فقد وجد فرصة لتعلم اللغة الألمانية، فلم يتركها تضيع، إدراكاً منه لأهميتها في اطلاعه على الفلسفة الألمانية، ذات الشأن الكبير في تاريخ الفكر الإنساني.
وهكذا اكتسبت ثقافة تيسير اللغوية والفلسفية مزيداً من الغنى، و تهيأت له ظروف الزواج من ابنة عمه عام 1950، وهو ـ بعدُ ـ ما يزال طالباً جامعياً، وفي عام 1952 حصل على الإجازة في الفلسفة، بعد أن تقدم ببحث عن “تجربة البدن في فلسفة غبرييل مارسيل”.
وفي السنة التالية، التحق بالمعهد العالي للمعلمين (كلية التربية) وحصل في نهايتها على شهادة أهلية التعليم الثانوي في حزيران من عام1953، بعد أن تقدم ببحث عن “الشَّخصية في اختبار رورشاخ”، ليُعيَّن مدرساً في إحدى ثانويات حمص.
في نهاية صيف عام 1955 تم نقله من حمص إلى دمشق، وعُيِّن مدرساً للتربية وعلم النفس في دار المعلمين الابتدائية، وفي عام 1959 صدر قرار بتعيينه مديراً للدار، تقديراً من المسؤولين في المديرية والوزارة لنشاطه في مجالي الترجمة والتأليف اللذين راح يعمل بهما في أوقات فراغه، فقد تابع تثقيف نفسه فلسفياً بمطالعة كل كتاب رأى أنه يستحق الدراسة، سواء أكان عربياً أم إنكليزياً أم فرنسياً أم ألمانياً، إضافة إلى عمله في الترجمة عن هذه اللغات الثلاث.
ووضع لحياته نظاماً خاصاً، إذ راح يقضي معظم أوقاته بين الكتب، إمَّا قارئاً أو مترجماً أو مؤلفاً، وإذا خرج من البيت بعد العصر، فلا بدَّ أن يمرَّ على المكتبات ليتعرَّف آخرَ ما صدر من مؤلفات تربوية وفلسفية، ويضمها إلى خزائن كتبه.
وفي عام 1962 ذهب إلى بنغازي في ليبيا متعاقداً مع الجامعة الليبية على التدريس في كلية الآداب “قسم الفلسفة”، وبقي فيها سنة واحدة طلب في نهايتها إنهاء العقد، ورجع إلى دمشق مدرساً في دار المعلمين.
في نيسان من عام 1964، صدر قرار وزاري بنقله إلى ملاك الإدارة وتكليفه التفتيش الإداري للفلسفة والتربية، وفي الوقت نفسه كُلِّف مجدِّداً بتدريس الفلسفة العربية في كلية الآداب وتدريس أصول التدريس النظرية والعملية في كلية التربية.
وفي عام 1972، وافق المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب على قبوله عضواً في الاتحاد.
وأُحيل على التقاعد تعليمياً لبلوغه سن الستين عام 1983 بحسب قيد السجل المدني الرسمي، ولكنه مَدَّد خدمته خمس سنوات، ابتداءً من تاريخ التقاعد، وعند انقضاء هذه السنوات حاول مدير التربية الاحتفاظ به متقاعداً، تقديراً منه لخبرته التربوية، ولكنه رغب في التَّفرُّغ للعمل في الموسوعة العلمية التي عُرض عليه الإسهام بتأليفها.
في عام 1995 أحيل على التقاعد في اتحاد الكتاب العرب، بناء على طلبه، وفَرَّغ نفسه لتأليف كتابه الذي تحدث فيه عن سيرته إنساناً مكافحاً فكريّاً، وتناول على صفحاته بعض المشكلات الأدبية والشعرية والفلسفية ومنظومات فلسفية لمجموعة من الفلاسفة بعيداً عن سياقهم التاريخي وعن النظرة المتحيزة، مركِّزاً على البناء المنطقي لها. واختار لهذا الكتاب العنوان: “فصول من حياتي: الوقائع والأفكار”.
مرَّ شيخ الأرض قبل اكتشاف فلسفته ” الكُلاَّنيَّة ” وإعدادها بمرحلة الترجمة في شؤون الفلسفة، فتعرَّف من خلالها، ومن خلال دراسته الثانوية والجامعية، تاريخَ الفلسفة وفلاسفتها، ثم ألَّف دراسات في الفكر الإسلامي تحدَّث فيها عن كبار الفلاسفة المسلمين وفلسفاتهم، وكان رائده في ذلك كله الدراسة والبحث، لتكوين حكم معين على مجمل ما قرأ، فكانت فلسفته الكُلاَّنيَّة حصيلة هذا الدَّرس والجهد كلَّه.
و الفلسفة الكُلاَّنيَّة، كما رآها تيسير شيخ الأرض تتلخص فيما يأتي:
* الفلسفة الكُلاَّنيَّة هي الفلسفة التي تعتبر الكُلَّ هو الأصل، وأنَّ الكل، ليكون أصلاً، يجب أن يكون مشخَّصاً لا مُجَرَّداً.
* إن الحقيقة الأولى هي حقيقة مشخَّصة لا مجرَّدة، قوامها الوجود والصَّيرورة الدَّائمة السَّيَلان التي تجزِّئ الوجود المشخَّص (الكُلَّ) إلى موجودات جزئيَّة، فتكون مبدأ خلق من هذه الناحية.
* وتبعاً لذلك، فالوجدان الذي هو الأصل الوجوديُّ للذات، إنَّما هو نتيجة لحركة الصَّيرورة أيضاً، وهو لا يختلف عن الموجودات الجزئية الأخرى إلا بالوعي.
* فإذا كان الكُلُّ هو موضوع الفلسفة، كان لا بُدَّ للذَّات المتفلسِفة من أن تكون في الكُلِّ، لأن الكُلَّ واحد، وهي جزء منه، لا يمكنها الخروج منه، لتتأمَّله من خارجه.
* وإذا كان الوجود المُشَخَّص هو موضوع الفلسفة، وكان هو الكُلُّ وكان الكُلُّ واحداً بالضَّرورة، كان لا بدَّ للتفكير المنطقي من أن ينتهي إلى فلسفة واحدة وحيدة.
* وإذا كانت الذَّات القائمة في الكُلِّ جزئية، وتحتلُّ مكاناً خاصاً بها فيه، يجعلها ترى الأمور من زاويتها الخاصة، وكان هذا شأن كلِّ ذات، كان لا بدَّ للاختلاف من أن ينصبَّ على التفاصيل الجزئية وحدها، من دون أن يمسَّ الكُلَّ أيَّ مساس.
* وهذا ينتهي إلى إلزامنا فلسفةً واحدة، يمليها علينا المنطق الصحيح الوحيد، وإن كانت كلُّ ذاتٍ تُضيف إليها تفاصيل تراها من زاويتها الخاصة.
إذن، فالفلسفة الكُلاَّنيَّة هي الفلسفة الواحدة الوحيدة، وما دُعي بفلسفات عبر التاريخ ما هو إلاَّ نظريات فلسفية، تبحث جوانب من هذه الفلسفة الكُلاَّنية كما يرى شيخ الأرض.
امتدت تجربة الفيلسوف تيسير شيخ الأرض المعرفية إلى البحث عن أساس الفنون، وأسس التفكير الفلسفي، وأسس اليقين والأخلاق والحضارة، والوجود والصيرورة والفعل، وهو إنما فعل ذلك ممهِّداً لفلسفته الكُلاَّنية التي أرادها أن تقدِّم للعلم والفن والأخلاق أساسها الذي تقوم عليه، والذي هو “الماوراء الوجودي” لكلِّ ما حاولت الفلسفات المجرَّدة التعبير عنه، فكان فيلسوف الترجمة، كما كان فيلسوف الفلسفة الكُلاَّنيَّة.