ثاني أيّام دولة الخلافة السوداء… فادي سهو
|| Midline-news || – الوسط …
.
بات الطريق إلى الحسكة يمرّ بالرقّة بدلًا من دير الزور، وما على المسافر من دمشق إلّا أن يراجع المستودعات الافتراضية في هاتفه المحمو ل، الذي قد يحمله إلى نار جهنّم خالدًا مُخلّدًا فيها أبدًا. لم أكذّب الخبرَ، اشتريت قطعًا من الكعك الطازج على مقربة من مركز انطلاق الحافلات، المعروف سابقًا باسم “كراج العباسيين”. وراجعت هاتفي، ووعدته بإعادة كلّ ما طالته يد الحذف، من صور وفيديوهات.
توجّهت إلى الحافلة بصحبة أحد الأصدقاء، وكانت معنا شقيقتي التي تدرس الهندسة في جامعة دمشق، والتي بات محرّمًا عليها السفر بدون محرم. لم أكن قلقًا أو خائفًا. انطلقت الحافلة بُعيد السابعة والنصف صباحًا، قطعنا مسافة مائة كم، وبدأت المرأة تصرخ بلهجة ديرية أصيلة: “وقّف وقّف ضيّعتوا هويتي” تعاطفنا مع تلك المرأة لأنّ فقدان الهوية في تلك الظروف يعدّ من الأمور غير المحمودة. لا شكّ أنّك نسيت الهوية عند حاجز الجيش الأخير.
حاول السائق إلقاء اللوم على المرأة لأنّها لم تتفقد هويّتها فورًا، عاد ثانية لتأنيب مرافقه! وفي الثالثة حاول إلقاء اللوم عليّ، باعتباري أجلس إلى المقعد الأوّل، وقمت باستلام الهويات من العسكري مباشرة، وأخذت هويتي وهوية شقيقتي، وهوية صديقي الذي يرافقنا. لكنّ محاولاته باءت بالفشل، خصوصًا أنّي دافعت عن نفسي بشراسة مباشرة بطريقتين، إحداهن غير محترمة! لم يجد حلّا سوى العودة إلى الحاجز، بدأت الثرثرة تخترق أجواء الحافلة الهادئة والخائفة والمتوجّسة، والمرأة المسكينة مطأطئة رأسها. عدنا بالهوية ورأسنا مرفوع! لم نصغِ كثيرًا إلى هرطقات مرافق الرحلة، وهو يتحدّث عن مغامرته مع الضابط، وإلقاء اللوم على العسكري لعدم حرصه على هويات المواطنين! قبل أن نصل إلى منطقة الرصافة الواقعة بين الرقة والحدود الإدارية لحماة، أشار السائق إلى ضرورة جلوس النساء في المقاعد الأخيرة، وهذا ما حدث بالفعل. لكنّي رأيت أختي تجلس وحدها بعد أن ارتدت الخمار، وجلست إلى جانبها، وأصبحنا في المقعد الأوّل الفاصل بين مقاعد الرجال ومقاعد النساء. وصلنا مدينةَ الرقة، وفوجئنا بأطنان السجائر ملقاة على قارعة الطريق، وأطلقت عيني اليسرى التي أرى بها جيّدًا، سهمًا إلى سيّارة تستقلّها نسوة يحملن البواريد والرشاشات، وقد دُوّن على السيّارة اسم “كتيبة الخنساء”.
جاء عنصر من رجال الدولة الإسلامية “داعش” وقال لي: لماذا تجلس إلى جانب هذه المرأة؟ قلت له: هي شقيقتي. قال بغضب: وإن كانت شقيقتك. اجلس حيث يجلس الرجال! لم أناقشه. بدأت أشعر بالقلق والخوف! وصلنا إلى منتصف مدينة الرقة، وأوقفنا حاجز للتنظيم المذكور، وطلب إلينا أن ننزل لمشاهدة العرض العسكري الذي يجريه التنظيم، وكانت لهجته تونسيّة. بارك لنا في قيام ما يسمّى الدولة الإسلامية في العراق والشام!. كتمت ضحكة في أعماقي. نزلت من الحافلة وبدأنا نشاهد عشرات الدبّابات والمصفّحات والصواريخ المتنوّعة وراجمات الصواريخ، ومئات المقاتلين المزوّدين بأسلحة خفيفة، يتقدّم ذلك العرض المُخيف خيول عربية أصيلة، وعلى ظهورها رجال يرتدون الزيّ الأسود. بدأت أدرك أنّنا أمام جيش حقيقيّ، مدرّب ومنظّم، ولا يحتاج إلى شيء سوى الدخول إلى العاصمة دمشق.
بقينا حوالي نصف ساعة ونحن نشاهد العرض الذي يجري بأريحية تامّة! قلت للمقاتل الذي صعد إلى حافلتنا: يا أخي، نحن من الحسكة، ونحتاج إلى ساعتين ونصف حتّى نصل إلى بيوتنا، وفي ظلّ هذه الحواجز نحتاج إلى خمس أو ستّ ساعات، أرجو أن تسمحوا لنا بالمغادرة. ربت على كتفي وقال: يا أخي! لا تقل “الحسكة”! اسمها بعد اليوم ولاية البركة، ولا تقل دير الزور بل قل ولاية الخير. قلت له: حاضر! أهلا وسهلا. هل نذهب؟ أجابني وقد امتعض: أجل! أجل.. توكّل على الله. توكّلنا على الله وذهبنا إلى الحسكة وقبيل الوصول إلى مركز المدينة، أوقفنا حاجز آخر، وقد بدأ الظلام يهيمن على كلّ شيء. حمل إلينا علب البسكويت والعصائر الطبيعية والتمر. وقال: هل انتم صائمون؟ ردّدنا خائفين: نعم، الحمد لله! كذبنا عليه، بقينا تسعة أفراد في الحافلة، ولا يوجد صائم بيننا، بسبب رخصة الإفطار للمسافر في رمضان. بدأنا نأكل التمر ونقرأ الدعاء المأثور: اللهمّ إنّي لك صمت وعلى رزقك أفطرت. إلى آخر الدعاء، وحرصنا أن نُسمع المقاتلَ الداعشي دعاءنا كي نشعر بالأمان! ألحّ في سؤاله: هل تحتاجون إلى أيّ شيء؟! سامحونا يا إخوتي، اقتطعنا جزءًا من أوقاتكم، لكن ضرورة حماية الدولة الإسلامية واجب من واجباتنا. قلت له: يا أخي لماذا تقاتلون في هذه المناطق الصحراوية؟ ألا تعرفون أنّ أهلها فقراء؟ فقال لي: سنقاتل في كلّ شبر في العالم، وسنقيم شرع الله في القرداحة أيضا. وقبيل الوصول إلى بيتي في ريف الحسكة، وقد أعياني السفر، ولم أعد أرى جيّدًا، أوقفنا حاجز قبيل قريتي بعشرين كيلو مترًا. أنزلني وصديقي من السيّارة التي استأجرناها من الحسكة، وقال لي: هل تدخّن؟ قلت له: لا، لا أدخّن. قال: أصدقني القول! أجبته بنزق: لا أدخّن، لأنّي أخاف على صحّتي فقط! وضع السيف على كتفي، ووجّه ضوء الشاحن الكهربائي الذي يحمله إلى عينيّ. وقال لي بهدوء: اذهب..اذهب!
وصلت إلى أهلي في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، في رحلة صحراوية مهولة، لم أتجرأ على السفر إلى الحسكة بعد ذلك اليوم. رحلت دولة الخلافة المزعومة، ومازال الخوف يهيمن على ذاكرتي وقلبي، ولا أملك الجرأة للذهاب إلى تلك المنطقة والوقوف على أطلالهم السوداء.