رأي

ممدوح الطباع – أزمة الهوية .. والمفهوم القومي

|| Midline-news || – الوسط  ..

تمر الهوية العربية اليوم في حالة أزمة حادة جراء التداعيات السياسية والعسكرية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط وخاصة في ظل الحرب الدائرة في سورية واليمن ، في الوقت الذي نشهد  فيه صعود حركات جهادية وإسلامية كثيرة على رأسها ” تنظيم الدولة الإسلامية – داعش ” والتي ما لبثت أن تغلغلت بشكل واضح وسريع في منطقتنا إبان الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003 ، وهو ما كان له الأثر السلبي المباشر في إعادة تعريف الهوية العربية في المنطقة والعالم بشكل مختلف عما كان عليه .

في حين تأتي سيطرة هذه المجموعات المتطرفة اليوم على مساحات واسعة من الأراضي في كل من سورية والعراق ( تنظيم الدولة الإسلامية – داعش ) لتزيد من تعقيد الوضع الأمني والسياسي والعسكري بالمنطقة كون هذه الجماعات الإرهابية أصبحت اليوم قادرة على تمويل نفسها بنفسها من خلال وضع يدها على بعض مصادر الثروات الطبيعية في كل من سورية والعراق كحقول للنفظ والتجمعات المائية التي تعتبر من أهم المراكز الحيوية لمصادر الطاقة كالهرباء والماء ( سد الفرات – سد الموصل ) وبموجب ذلك أصبحت تملك قدرة مالية ولوجستية كبيرة وهو ما كان عاملاً مهماً لقدرة هذه الجماعات على بناء جناح عسكري قوي ومتطور خاص تستطيع من خلاله أن تدير عملياتها العسكرية بشكل كبير ، ناهيك عن الدعم الذي تتلقاه هذه المجموعات من قبل جهات ودول إقليمية محددة .

يعيش عالمنا العربي اليوم شبح الهويات غير الواضحة ، أو لربما غير المحسومة ، فاليوم نواجه مشكلة في تعريف الهوية ضمن إطار الأقليم الواحد في ظل التعددية في داخل المجتمع الواحد ، ولكن ما يثير الجلبة اليوم هو بروز ” الهوية الدينية ” على السطح وكأنها أصبحت هي البديل للهويات الوطنية والقومية ، وهنا لربما يأتي السؤال : هل نستطيع استبدال هويتنا الوطنية والقومية بهوية دينية ؟.

لابدّ من إعادة التذكير بتعريف ، مفهوم الدولة القومية ، وكيف لنا أن نميز بين القومية والتعددية ، وماهي النتائج التي من الممكن أن تترتب إذا ما قمنا بالفعل باستبدل الهوية العربية والقومية اليوم بهوية دينية ، وكيف ستكون التحديات التي سوف نواجهها في المستقبل إبان ذلك .

اختلفت العديد من الكتابات الأكاديمية والفلسفية النظرية في تحديد نشأة الدولة القومية الحديثة ، إلا أن مصطلح الدولة بشكل عام لم يكن حديثا ، بل هو بدأ في الظهور من بعد معاهدة ويستفاليا عام 1648 للصلح بين المجتمعات والإمبراطوريات الأوروبية المتناحرة . جاء ذلك المؤتمر لوضع حدٍ لتلك الصراعات المسلحة والتي أودت بحياة الكثير من البشر . تم الاتفاق على أن يتم تعيين ما سمي وعرف بعد ذلك بالـ ” Nation State ” أو الدولة القومية ، والتي كانت تعني أن تتخذ كل مجموعة من الأعراق وأصحاب اللغات المتشابهة أرضا ويعينوا لها حدودا وتصبح بذلك دولتهم التي لا يُغير عليها أحد ولا يشاركهم فيها أحد .

تعرّف القومية على أنّها الانتماء إلى هوية معينة ولغة مخصوصة وثقافة محددة ، وهو ما يقودنا بشكل مباشر إلى مسألة مهمة ألا وهي أن القومية ترتبط بمسألة الولاء وهو نتاج الانتماء والذي يقوم على أساس فكرة التضحية بالنفس من أجل مايدين الإنسان له ، وهو ما يحصل عندما ينتمي الإنسان إلى جماعة ما فيصبح مستعداً للتضحية بنفسه من اجل هذه الجماعة .

وهنا نتحدث أيضاً على أنّ القومية هي مجموع لتجمع الأفراد الذين لهم وعي جماعي بالانتماء إلى هوية وأصل معين ومحدد ، وهو ما يطلق عليه  اسم  ” النزعة القومية ” وهي في الواقع تعدّ من أهم أيديولوجيات الثقاقة السياسية الحديثة ومن الأدوات الحاسمة لتحقيق التحول من حالة المجتمع التقليدي إلى مجتمع صناعي ، أي الانتقال إلى حالة ” الدولة الحديثة ” .

إن الفرق مابين الهوية القبلية أو الإثنية أو الدينية من جهة ، والهوية القومية من جهة أخرى كبير جداً ، فهوية الإنسان القبلية لا تتغير اليوم مع تغيير المكان كون هذه الهوية هي متبوعة بالنسب ولها مرجعية ألا وهي أصل هذا النسب وفصله مهما كان عمر هذا النسب أو جذره .

أما الهوية الإثنية فهي تعتمد على قرابة الدم بين أفراد مجموعة واحدة . أما بالنسبة للهوية الدينية فهي ما تفرضه نصوص الدين من صلات للرحم وما تسنه المؤسسة الدينية من تشريعات بحد ذاتها وذلك من أجل أن يتبعها الأشخاص المؤمنون أينما كانوا وليس ضمن دولة أو إقليم معين فقط .

في واقع الحال تجتمع هذه الهويات الثلاث مع بعضها في محتلف التنظيمات الاجتماعية اليوم ، فكل شخص له ارتباط بجماعة يعد نفسها منها وولد في موطن معين وله صلات دم تربطه بهذه الجماعة ، بالإضافة إلى صلاته الدينية عبر المؤسسة الدينية التي نشأ على أعرافها وقوانينها ، أو التي يتصل بها بأي شكل من الأشكال .

إن مفهوم القومية يعني وجود مجتمعات ضمن دولة واحدة ، ولربما تكون هذه المجتمعات مختلفة فيما بينها اثنياً وعرقياً ودينياً ، وهنا يأتي مفهوم التعددية ليجتمع مع مفهوم القومية ( القومية التعددية ) وهو ما يدل على التنوع البشري في أغلب المجتمعات الحديثة .

إنه لمن الصعب جداً اليوم لا بل إنه من الخطير أن نتخلى في بلادنا العربية اليوم عن مفهوم القومية أولنقل الهوية القومية على حساب الهوية الاثنية أو الدينية ، معتبرين أنّ هذا المفهوم غير صالح للمرحلة الحالية التي نعيشها من تشابك ذهني في تعريف هوية المواطن العربي بشكل حقيقي لما يعيشه من مجريات تدور حوله ، وهنا يأتي الدور لنتحدث عن مفهوم ” العولمة ” الذي جاءت به الولايات المتحدة الأمريكية إلى المنطقة مغلفة إياه بأيديولوجية حقوق الإنسان على حساب الشعب والدولة والوطن ، فالمصلحة الأمريكية في المنطقة اليوم هي اعتبار مفهوم القومية مفهوماً عثاً قديماً ، فبرنامجها السياسي والاقتصادي يحتم عليها القضاء على مفهوم القومية بكل معطياته ، أي حماية الأرض الشعب والموارد ..

وفي واقع الحال هذا ما شهدناه بعد فترة التسعينيات حقيقة ، من خلال سقوط المشاريع القومية العربية في المنطقة والتي لم ينتج عنها سوى مجموعة من الصراعات الدينية والإثنية التي لم تخلف سوى الدمار والاقتتال الطائفي والمذهبي على شتى أنواعه وأشكاله ، تاركاً ذلك الأثر الكبير لدى المواطن العربي بحد ذاته ليكون غير قادر على التعريف بهويته العربية القومية بشكل صحيح ، وعلى الرغم من عدم جواز التعميم دائماً بهذا الخصوص .

ولذلك لن يكون من السهل بمكان أن نتخلى عن قوميتنا العربية في محاولة لتقليد التجربة الأوروبية على غرار ما يسعى له مجلس التعاون الخليجي اليوم على سبيل المثال في تطبيق وحدة متكاملة تجمع دول الخليج على الشاكلة الأوروبية ، ولكن على ما يبدو أنّ الأشقاء الخليجيين نسوا اليوم أنّ أوروبا سبقتنا بأشواط متقدمة في مراحل الدولة القومية ، وتطورت فيها الثوة الصناعية والديمقراطية بشكل كبير حتى أرست مبدأ ان الشعب يعد مصدراً رئيساً للسلطة ، بينما اليوم لازالت المملكة العربية السعودية أكبر دول مجلس التعاون وأغناها تناقش قدرة المرأة على قيادة السيارة بمحرم أوبدونه ! ولذلك يجب علينا أن ندرك أننا اليوم لن نكون قادرين على التخلي عن مفهوم القومية بحد ذاته إذا لم نكن قد مررنا مراحل هذا المفهوم بشكل حقيقي ، لنكون قادرين بعدها على الانتقال إلى المرحلة الأخرى ، وإلا لن يكون لنا سوى النموذج الإسلامي الداعشي كمثال للوحدة المتكاملة .

إن واقع الحال يفرض مجموعة من التحديات على مثقفي أمتنا ورجالات السياسة والدين ، فنحن اليوم بحاجة إلى حل جذري للخروج من قوقعة ( الولاء للأشخاص ) والرجوع إلى المبدأ القومي الجامع بين أبناء الأمة الواحدة على الرغم من تعدديتها ، و على الرغم من أننا نواجه الخوف من الميول نحو نزعة الهوية الدينية ، إلاّ أن العامل الديني لربما يكون الحل لإيجاد نوع من الوحدة القومية ، أي تسخير الدين في تحقيق مفوم القومية ، فلن يكون هناك فرق بين سني أو شيعي او بين مسيحي أو مسلم وغير ذلك من مذاهب وأديان متعددة ضمن الوطن القومي الواحد ، لأن مصير هذه الأمة ومصير مستقبل أجيالها القادم مصير واحد طالما أنهم يعيشون على الأرض ذاتها ، ولتكن الحرب في سورية عبرة لنا فما تقوم به بعض الدول كالسعودية وقطر على سبيل المثال من دعم لجماعات إرهابية مسلحة في سورية لـ ” نصرة أخوتهم السنة ” لا نرى مثيله في غزة لنصرة أخوانهم ” السنة ” أيضاً !


المراجع :

  • ستيفن دي تانسي ، علم السياسة الأسس ، ترجمة رشا جمال ، الشبكة العربية للابحاث والنشر ،بيروت ،  2012، ص 108 .
  • ويكيبيديا الموسوعة الحرة تعريف القومية والتعددية .
  • صحيفة الأخبار اللبنانية العدد ٢٣٦٢ الخميس ٧ آب2014 ،الكاتبة صفية سعادة .
الآراء المذكورة في المقالات لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي أصحابها حصراً
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك