عبيدو باشا – ناجي العلي على سارية بكائه .. جوعي إلى فلسطين جوع خرافة إلى الحقيقة ..
|| Midline-news || – الوسط ..
إثر اللهب ، المتدحرج على بيروت ، بالعام ١٩٨٢، دخلنا كموج رقيق ، إلى صالة سينما الحمرا . اختزل الإسرائيليون ، وقتها ، المدينة ، باللحم . كل من بالمدينة ، لحم . لا أرواح . زمن دخول الصالة السينمائية ، زمن مسلوخ من زمن الهزيمة الكبرى . خرج الفلسطينيون بالبواخر والبوارج الحربية ، إلى دول الإتفاق العربي / الأميركي .
لا أكثر من عشرة رجال بالسينما . لا نساء . بيروت ، تزيل الشوك عن بيروت . بيروت ترغب بالتوهج من جديد . بين الرجال العشرة ناجي . أخذته إلى الصالة ، بأول مثول على الأرض ، بعد ملحمة الصمود ببيروت . بكنبتين متلاصقتين ، لحضور فيلم ستيفن سبيلبرغ ” إي تي ” . كل كنبة ، مصطبة على الشاشة العريضة . أغلقت الصالة اليوم .
وجد المخلوق الفضائي ، باحثاً عن المركبة الفضائية الأم ، لكي يعود إلى الوطن . وجد يبحث عن معبر إلى السماء ، بعيداً من المنفى الميبس . المخلوق الكاريزمي بالمنفى الميبس . ناجي ، بدوره ، بمنفاه الميبس . لم يجد ناجي معبراً بالأراضي الموصدة على وطنه . بحث المخلوق الفضائي ، طوال الفيلم عن وطنه . ردد جملة : إي . تي غو هوم . أي . كلمات مطوقة بالرغبة بالعودة إلى وطن بعيد . إسم وكلمتان في قصيدة .
ناجي المتهاوي ، بالرحيل اللامتناهي للمقاتلين الفلسطينيين ببحار بيروت ، كغناء جماعي ، بجملة موسيقية غير مكتوبة . جملة كطلق من مسدس ٍفج . بكى ناجي ، المتهاوي ، متأثراً برغبة المخلوق بالعودة إلى وطنه . بقاؤه ، على الأرض ، بقاء ذبيحة تترقب . بكى ناجي ، فجأة . بكى الرجل الصلب . الرجل المعدن . لم أصدق ، أولاً ، أن ناجي يبكي . لم أظن ، أن الصخب الثري ، المكتوم ، صخب ناجي . قذفت عيني بوجه ناجي ، بعنف مباغت . إنقشر المشهد ، إذاك ، على نواح ناجي . نواح لا بكاء . ناجي بصوت أرجوحة ، بكرب بلا حدود . يا ناجي ، قلت . قلت ، يا ناجي ، بصوت مكتوم ، كصخبه المكتوم . لم يرد . ثم ، حين أدرك المخلوق الفضائي مركبته ، سائرة على خطوط الطول وخطوط العرض إلى الوطن البعيد ، امتد جدار من أول صدره إلى آخر صدره . شهق ، حين وجد فلسطين وراء الماوراء وأبعد . لا عين تصل إليها . لا تصل اليها يد .وطن الفضائي أقرب من وطن الأرضي . وطن الفصائي مرئي . وطن الأرضي ، رقيق ، هش ، بعيد عن الأولاد والأحفاد . قال ، كلما أحس فلسطين اقتربت ، تبتعد فلسطين . لا أجد فلسطين إلا في فؤادي . لا حياة ، بحياتي ، بفلسطين .
وقف ناجي على سارية بكائه ، وهو يراقب ” إي تي ” بسفينة الفضاء المضاءة بالأنوار ، تسبح إلى وطن الطفل الفضائي . جوعي إلى فلسطين ، جوع خرافة إلى الحقيقة . وطن على تخوم العيون والقلوب والأفئدة ، ولا يراه أولاده . كلام قويم ، كلام صاف . كلام ، كلام ، كلام ناجي . خرجنا من لولب الدم وقتها . لم نعلم أن اسرائيل ، تريد أن تختتم عالم فلسطين ببيروت .أنار البكاء وجه ناجي ، كزهرة ذهبية ، وجدت نفسها خارج أرضها ، خارج حقلها . لم يخرج من صرخته الأليمة ، ونحن نشرب من زجاجة اشتريناها من أحد المحلات على الطريق . قصدنا المرفأ . وجدنا أن المرحلة مرحلة افتتاح ليل فلسطيني آخر .
بالطريق إلى ” السفير ” الصحيفة ، رغب بالغناء ، إلا أنه لم يقدر . قسمت صوتي مناصفة على روحين ، حين رحت أغني ” يا حمام يا مروح بلدك متهني / ترضى أنا نوح وانت تغني ” تحت طلبه .
طمست الممرات إلى فلسطين مرة أخرى ، إثر خروج المقاتلين الفلسطينيين منها . ثلاثون عاماً ، على غياب ناجي . ثلاثون ، لم أنس فيها تفصيلاً من تفاصيل حصار بيروت ، حتى أتذكره . هناك ، بالمكتب الفقير ، قال ، خرج المقاتلون من بيروت . هناك ، قال ، إذا خرجت من بيروت ، أموت. وحين خرج ، مات .