رأي

أحمد مناصرة لم يعد طفلاً

د. مصطفى يوسف اللداوي – بيروت ..

|| Midline-news || – الوسط  ..

لم يكن الطفل أحمد مناصرة في حاجةٍ إلى شهادة سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتنفي عنه صفة الطفولة، وترفعه إلى مصاف الرجال، وتصنفه ضمن فئة الأبطال، وتفسح له في سجونها ومعتقلاتها بين الكبار مكاناً، وتهيئ له وسط الأسرى والمعتقلين قدراً ومقاماً، وتجعل من اسمه علماً ومنه نجماً، وتنسج من أخباره حكاية ورواية، يتناقلها الكبار قبل الصغار، ويحكي عنها المسؤولون والقادة قبل الناس والعامة، وتنشغل بها المؤسسات الحقوقية والمنظمات الدولية وهيئات حقوق الإنسان عامةً والطفل خاصةً.

فهو وإن كان طفلاً دون السن القانونية عندما ألقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي القبض عليه، بتهمة المشاركة في عملية طعنٍ، أو تقديم مساعدةٍ لمنفذها، فإنه كان ككل أطفال فلسطين يثور من داخله، ويغضب من أعماقه، ويغلي كالمرجل ناراً، ويمور كما البركان لهباً، ويتمنى لو أنه يستطيع الثأر ويقوى على الانتقام، فهذا حلم كل فلسطيني ذاق مرارة الاحتلال، واكتوى بظلم جيشه وعدوان مستوطنيه، وجور قراراته وعسف سياساته، التي ما استثنت في ظلمها حجراً ولا بشراً ولا شجراً.

فما فعله الاحتلال في الشعب الفلسطيني وما ارتكبه من جرائم في حقهم، قادرٌ على أن يجعل من كل طفلٍ فلسطينيٍ قنبلةً، ومن كل صغيرٍ رجلاً، ومن كل فتىً قائداً، يتقدمون الصفوف قبل غيرهم، ويبلون في الميدان قبل الرجال ومعهم، ولا يتأخرون إذا سمعوا النداء أو عزموا على المسير أياً كانت الصعاب والتحديات والعقبات، وهو ما كان فعلاً على الأرض وفي الميدان، إذ استحال الأطفال أبطالاً، والرجال ليوثاً، وتقدمت الفتيات والنساء ومنهن أمهاتٌ ومسناتٌ إلى ميدان المقاومة، يسبقن الرجال، وينافسن الأبطال، ويفسحن لأنفسهن في سوح المقاومة مكاناً، ويرسمن على لوحات الشرف اسماً، وينقشن في الذاكرة عملياتٍ لا تنسى.

ولكن سلطات الاحتلال كانت خبيثة وماكرة، وكاذبة وظالمة، فهي أكثر من يعلم أنها تكذب وتفتري ولا تروي الحقيقة ولا تتحرى الصدق فيما تقول، إذ اتهمت أحمد مناصرة بأنه شريكٌ في عملية الطعن، رغم أنه ربما كان يتمنى لو أنه طعن جندياً فقتله، أو شارك في عمليةٍ أخرى وقدم مساعدةً لمقاوم، فهذا مما يفخر به ويفرح له، إذ أن المقاومة موضع فخر الشعب واعتزازه، وهي وسامٌ تزين صدر كل من كان له سهمٌ فيها، وتضيئ جبين كل من شارك فيها، فطوبى لمن كان له فيها فضلُ السبق أو المشاركة، وشرف الإعداد والتجهيز، وهنيئاً لمن تغبرت في الميدان قدماه، أو تركت المقاومة على جسده علامةً، وفي جسمه إشارةً ودلالةً، تكون له بين الخلق شهادة، وعند الله عز وجل أجراً ومثوبةً ومكانةً.  

تدرك سلطات الاحتلال أن أحمد مناصرة قد قهرها وهزمها، ونال منها وحط من مقامها، وأنه مرغ أنفها بالتراب، وطأطأ رأسها وأهان كبرياءها عندما وقف أمام جلاديها كالطود الشامخ، يصرخ في وجوههم، ويتحدى جبروتهم، ويعلو صوته فوق أصواتهم، حتى جابت صوره الآفاق، وانتشرت في كل الدنيا، تفضح حقيقة الاحتلال، وتكشف عن أخلاق جيش العدوان، وتبين كذبه وادعاءه بأنه الجيش الأكثر مناقبية في العالم، فإذا هو الجيش الأكثر دونيةً وحقارةً، إذ يلاحق طفلاً، ويتكاثر عليه بجنوده وهو أعزل، ويعتقله وهو ضعيف، ويحاكمه وهو بريء.

تخطيء سلطات الاحتلال الإسرائيلي إذا اعتقدت أنها ستجبر أحمد مناصرة على التقوقع في سجنه، والانزواء في معتقله اثنا عشر سنة، وهي المدة التي قضى بها عليه قضاة المحكمة العسكرية، وأنه سيخسر هذه المدة من عمره، وسيشطبها من سجل حياته، وسيفقد خلالها فرصته في الدراسة والتعليم، وسيحرم من والديه وإخوانه، وأسرته وأقاربه ومعارفه وأصدقائه، وأنه سيخرج من سجنه بعد اثني عشر عاماً محطماً يائساً محبطاً، نادماً على فعل، ومتحسراً عما بدر منه، ومتمنياً لو أنه ما سلك هذه الطريق، ولا اتبع سبيل المقاومين ولا آمن بمنهجهم ولا عمل بسنتهم، إذ أن طريقهم هي التي أوردته المهالك، وأضاعت من عمره سنيناً.

لكن ما لا يعرفه العدو بغبائه، وما غاب عن عمله بغطرسته وكبريائه، وما سيندم عليه مع قادم أيامه، أن أحمد مناصرة سيقتفي أثر السابقين، وسيتعلم من السلف المتميزين، ولن يكون في أغلاله من القاعدين، بل سيتلقى العلم في معتقله، وسيواصل دراسته من سجنه وهو أسير، وسيتخرج من الجامعة وهو معتقل، ولن يفوت الفرصة على نفسه، ولن يضيع الوقت من عمره، ولن يشمت العدو به، ولن يفرحه بعقابه، بل سيستغل الفترة كلها في كل ما يفيده ويزيد ثقافته، ويصقل شخصيته ويشكل هويته، وسيكون له مع القرآن الكريم وقفة فيحفظه، ومع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دروسٌ يعيها وأحكام يتعلمها، وقد يكون منه أكثر مما نتوقع، وأفضل مما نتمنى له ونرجو، وله فيمن سبقه خير عبرةٍ وأعظم تجربة.

أما في الجانب الوطني فستكون مدة اعتقال أحمد مناصرة دورةً تخصصية في مجال القيادة والريادة، يتعلم فيها أصول الإدارة وقواعد التوجيه، يتميز فيها بجدارةٍ ويتقدم خلالها باقتدارٍ على غيره، ويبز بها سواه، ويكون أعلى من أنداده قدراً، وأمهر من ندمائه دوراً، وأقدر على القيادة من أترابه، يغيظ العدو إذا تقدم، وينغص عيشه إذا قاوم، ويكبده خسائر إذا خطط وقاتل، ويجعله يعض أصابع ندماً على ما أقدم عليه ضده، وما حكم عليه بسجنه واعتقاله.

لن يهزمَ شعبٌ فيه أحمد مناصرة، وفارس عودة، ومحمد الدرة، وعلي دوابشة، وإيمان حجو، ومحمد أبو خضير وغيرهم كثير، الذين غدوا في حياتنا كالنجوم الزاهرة، وكالشمس الساطعة، يزينون سماءنا، ويعلون هاماتنا، وينصبون قاماتنا، ويرفعون قبلة السماء العالية راياتنا، ويزهون بين الملائكة بطهرهم، ويطوفون حول العرش بصدقهم، أرواحهم الطاهرة في حواصل طيرٍ خضرٍ، وأسماؤهم اللامعة في سجل الخالدين، أسرى كانوا في سجونهم، أو شهداء كانوا في عليائهم، فهم المقاومون الأبرياء والشهداء الأنقياء، طوبى للشعب الذي أنجبهم، وللأرض التي احتضنتهم، وللأمة التي حفظتهم وأبرتهم.

الآراء المذكورة في المقالات لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي أصحابها حصراً
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك